أصدر القيادي بالحزب الشيوعي التونسي ثم بحركة التجديد فالمسار الديمقراطي الاجتماعي، هشام سكيك، كتاباً بعنوان "كتابات على الطريق" يحتوي على مجموعة مقالات نشرها بالعربية بجريدة الطريق الجديد من 1981 سنة تأسيسها إلى 2014 سنة اختفائها. و إن كان من الطبيعي أن يقرأ المناضلون القدامى هذا الكتاب بشيء من الحنين إلى الماضي و بالاعتزاز بمواقف و نضالات حزبهم خاصة خلال الحقبة التسلطية، فإنه ينبغي أن نقرأه كذلك كوثيقة تاريخية هامة، لأن المقالات تروي بطريقتها أهم المحطات التاريخية و أهم الأزمات السياسية التي عاشتها البلاد على مر أربعة عقود أو ما يزيد، فنجد فيها مثلاً تحاليل و مواقف الكاتب (و حزبه) من أزمة 26 جانفي 1978 و أحداث قفصة و أحداث الخبز و7 نوفمبر و الميثاق الوطني و أحداث الحوض المنجمي إلى أن نأتي إلى الثورة وما تلاها من تطورات وأزمات. و القارئ يجد متعة في مطالعة هذه المقالات لأسلوب الكاتب المتسم بحصافة الرأي و الرصانة و العقلانية كما أبرز ذلك السيد الحبيب رمضان في مقدمته الجميلة و نضيف إلى هذه الخصال ميزة أخرى و هي دقة وعمق التحليل السياسي فيكون المقال أحياناً محذراً من تطورات أو مستبقاً لما سيحدث فعلاً. فنجد مثلاً في مقال "الخبز و حقيقة الأسعار" بتاريخ 8 أكتوبر 1983 هذا التحذير الصريح : "بات من المتأكد ... أن نية الحكومة متجهة نحو الترفيع في أسعار المواد الأساسية، و خاصة منها الحبوب و مشتقاتها من خبز و عجين و سميد ... و نظراً لخطورة الموقف - و من موقع مسؤول - فإننا نحذر من إتخاذ مثل هذا الإجراء" (ص80). كما نجد في مقال كتب بعيد تعيين بن علي كوزير أول بتاريخ 17 أكتوبر 1987 هذا التحليل/التنبؤ : "أما الاحتمال الثالث فهو أن يحصل وعي بأن تدهور الأوضاع قد بلغ درجة أصبح بها يهدد كيان النظام نفسه و الحزب الدستوري بالخصوص و المجتمع عامة و أن المسؤوليات الجديدة ستمكن الوزير الأول من الخروج من حدوده الفنية و تتيح له الفرصة لمعالجة الأوضاع من زاوية أوسع من تلك التي مارسها حتى الآن فيتطرق إلى الأمور بصفة شمولية، لا كوزير للداخلية بل كوزير أول و أيضاً كمرشح للخلافة طبقاً لدستور البلاد..." (ص93).
لكن الأهم من هذا في رأيي هو أن الكتاب يتيح لنا متابعة مواقف و تحاليل الحزب الذي انتمى إليه الكاتب و يمكن لمن واكب نشاط حركة التجديد منذ بداية الألفية أن يقارن بين فحوى مقالات هذه الفترة و فحوى مقالات فترة الثمانينات، أي لما كان الحزب شيوعياً، و أن يقف على التطورات إن وجدت. و المتمعن في المقالات سيكتشف أن هناك عدة مواقف ثابتة لم تتغير على مر السنين، فهي بمثابة الحمض النووي للحزب و لكنه سيرى كذلك أن أشياء تغيرت أو بالأحرى اختفت لما تخلى الحزب عن الشيوعية. فما الذي بقي على حاله و ما الذي تغير؟ هذا ما سنعدده فيما يلي.
الثابت
من بين الثوابت نجد أولاً المساندة و الدعم القارين للاتحاد العام التونسي للشغل. فليس من الصدف أن يكون المقالان الأولان مخصصين للاتحاد. فالأول مستبشر باستعادة الحبيب عاشور لحقوقه السياسية و باستعادة القيادة الشرعية لهياكل المنظمة بعد المحنة العصيبة التي مر بها الاتحاد. و أما الثاني فيعود إلى الأسباب العميقة لأحداث 26 جانفي 1978 و يرجع فرض مطلب استقلالية المنظمة الشغيلة إلى خصائص القواعد الجديدة الشابة و المثقفة التي دخلت الاتحاد في السبعينات.
ثانياً، نجد النضال الدائم من أجل الديمقراطية و الحريات العامة الذي يحظى بعدة مقالات خلال الفترتين.
ثالثاً، البراغماتية و السياسة كفن الممكن. و من هنا الإصرار على استغلال أي هامش يتركه النظام التسلطي للتحرك، كالمشاركة في الانتخابات حتى و إن أدى هذا إلى خيبة أمل و إلى التنديد بالتجاوزات (و ما أكثرها) و هو ما يستوجب في كل مرة مواجهة دعاة المقاطعة و الدفاع عن جدوى المشاركة رغم كل شيء.
رابعاً، قضية الجهات الداخلية و مساندة مطالبها المشروعة. إذ يعود سكيك في جانفي 1985 إلى أحداث قفصة داعياً إلى ضرورة طي الصفحة الأليمة و مذكراً بأن غضب مواطني تلك الجهة هو غضب مشروع. كما عبر بمناسبة نضالات الحوض المنجمي في 2008 عن انشغاله إزاء ما يحدث في المناجم و دعا في مقاله إلى "هبة وطنية لإنقاذ الجهات و الفئات المحرومة".
خامساً، الاحتراز من الإسلام السياسي. و يستند هذا الاحتراز إلى فكرتين أساسيتين عبر عنهما في حوار حول "التراث و العمل السياسي" في جانفي 1983. الأولى تعتبر "أن الإسلام كعقيدة و حضارة يكتسي صبغة شمولية تشمل المجتمع بأسره بما فيه الشيوعيين، أما العمل السياسي فهو بالضرورة تعبير عن مصالح طبقية معينة بحيث أن محاولة التوفيق بين شمولية الإسلام و طبقية العمل السياسي قد تضر بهذا أو بذاك أو بالإثنين معاً" (ص67)، و الثانية تحذر من "مخاطر تعويض الحجة العقلية بحجة من نوع سلطوي كالحجة المقدسة الدينية" (ص67). أما في فيفري 2004, فيرد سكيك على كلمة نجيب الشابي حول "ضرورة التحاور مع الحركة الإسلامية" متسائلاً عن إمكانية اعتبار هذه الأخيرة جزءًا من الحركة الديمقراطية و التقدمية و مذكراً بضرورة تفادي اختزال الديمقراطية في جانبها الإجرائي (ص150).
سادساً وأخيراً، هاجس العمل المشترك و التحالفات مع بقية القوى التقدمية : بيد أن هذا الأمر لم يكن بديهياً كما نستشف ذلك من مقال بعنوان "نحن لا نطرح على اليسار أن يذوب داخل الحزب الشيوعي" صدر في جانفي 1983, بعد محاولة إفساد لقاء خلال مهرجان الطريق الجديد، و الذي يتوجه فيه سكيك إلى اليسار بهذا الخطاب : "نحن نعتبر أن اليسار يمكن أن يقوم بدور إلى جانب الحزب الشيوعي و بعمل مشترك معه ضمن أنواع من تحالفات أو تحركات : ظرفية، طويلة المدى، متوسطة المدى ... و على الأقل أضعف الإيمان الذي نطلبه منكم إن كنتم حقيقة تقدميين ألا تكونوا أعداء للحزب الشيوعي الذي يقوم بمهام لنا و لكم، لليسار بصفة عامة (...) فليس من مهام اليسار أن يضرب أعمالنا و يعرقلها و يفشلها، اتركوا هذه المهام لليمين، ليست هذه مهامكم" (ص56).
هذه إذن التحاليل و المواقف الثابتة في الفترتين. فما الذي تغير؟
المتغير
عندما نقارن مقالات الثمانينات بما كتب سكيك بعد ذلك خاصة منذ بداية الألفية الجديدة، نلاحظ أن في هذه الفترة تختفي المفاهيم و أدوات التحليل الماركسية و تختفي كذلك النظرة الطبقية للأمور، كما نلاحظ تراجعاً للمسألة الاجتماعية لصالح المسألة الديمقراطية و الحريات و أكثر اعتدالاً في ما يخص المواقف من القضايا الدولية و غياباً للمشاغل الفكرية و النظرية.
فعلاً، إننا نجد في مقالات الثمانينات استعمالاً لمفاهيم وأدوات تحليل ماركسية غابت في الفترة الموالية. ففي المقال المخصص لأحداث 26 جانفي يفسير سكيك الصدام بين الاتحاد و الحكومة بانتهاج هذه الأخيرة "سياسة رأسمالية" (ص29)، كما ينتقد ايديولوجية الميثاق الوطني لأنها "لا ترفض النمط الرأسمالي بل تسعى إلى تهذيبه و الحد من شروره" (ص110).
و من ناحية أخرى فإن سكيك الثمانينات يلجأ إلى القراءة الطبقية للمجتمع التونسي و له نظرة طبقية للأمور. فهو صاحب مقال هام جداً نشر في فيفري 1983 تحت عنوان "حول البرجوازية الصغيرة و دورها" يتساءل من خلاله عن الدور الذي ستلعبه هذه الشريحة التي قادت الحركة الوطنية و فازت بالحكم في ظل بروز "برجوازية جديدة" في السبعينات كنتيجة مباشرة لسياسة الهادي نويرة.
كما نلاحظ أن مقالات الثمانينات مهتمة أكثر بالمسألة الاجتماعية في حين أن مقالات الألفية الجديدة و خاصة منها التي صدرت بعد الثورة أكثر اهتماماً بالديمقراطية و الحريات و ربما مرد ذلك هو الظرف السياسي و المشاكل التي رافقت حكمة النهضة، إذ تعددت المقالات المخصصة لظاهرتي الإرهاب و السلفية و المنادية بضرورة الدفاع عن المثقفين و الفنانين.
و الملفت للانتباه أن مواقف سكيك الشيوعي في علاقة بالقضايا الدولية كانت أكثر راديكالية من مواقف سكيك الألفية الجديدة. إذ يكتب في مقال يدرس فيه تداعيات زيارة مزالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 24 جويلية 1982 : "إننا لا نلوم الحكومة التونسية على قيامها بمساع، أي مساع، بقدر ما نلومها على مثابرتها على اعتبار أمريكا صديقة لتونس، و كأن ما حصل من مواقف أمريكية و مبادرات أمريكية مجرد هفوات يمكن تلافيها بالاتصالات و الزيارات. إن ما يتطلبه الوضع اليوم، إن ما يطالب به الشعب التونسي و الشعوب العربية، إن ما يتطلبه المنطق السليم اليوم هو أن نأخذ الأمور على ما هي و نعتبر الواقع الحقيقي الذي تجلى بكل وضوح لدى الجميع : وهو أن أمريكا عدوة الفلسطينيين، عدوة العرب، عدوة الشعوب و أن التعامل الوحيد الذي يجدر بها هو : قطع العلاقات معها فوراً و تجميد كل الاتفاقيات التي أبرمت معها" ص47).
و أخيراً و ليس آخراً، إن مقالات الثمانينات كانت تولي أكثر اهتماماً بالقضايا الفكرية و النظرية. إذ يؤكد سكيك في مقاله حول الحزب الشيوعي و اليسار : "أن الطريق الجديد مفتوحة للحوارات النظرية مع اليسار بما فيها المناقشات حول الماركسية" (ص57)، كما يدعو في نفس المقال إلى : "إعادة بناء يسار ينطلق من المشاكل الحقيقية للشعب التونسي، من المشاكل المطروحة على شبابنا" (ص55).
ما أجمل هذا الطرح! و لكن ... هل شرعنا في هذا البناء بعد أكثر من أربعة عقود من تحرير هذا المقال؟ لا أظن. و هل يمكن الشروع في الإنجاز اليوم، بعد أن تراجع الهاجس الفكري و الطموح النظري لدى الأحزاب اليسارية؟ لا أظن. إلا إذا عاد الشباب التقدمي إلى الاهتمام بالقضايا الفكرية و المسائل النظرية و نجح في استخلاص العبر من المسيرة النضالية لمن سبقه. و لا شك أن دراسة مثل هذه المؤلفات لها فائدة كبرى بالنسبة للجيل الجديد علاوة على أهميتها كوثيقة تاريخية.
بكار غريب