تشهد البلاد هذه الأيّام سلسلة من "المداهمات" والملاحقات تقوم بها قوّات الأمن طالت مقاهي المدن وشوارعها وأحيائها القريبة والبعيدة.الهدف المعلن من هاته الحملة هوالبحث عن المتهرّبين من الخدمة العسكرية وعرضيا المفتّش عنهم قضائيا.
وقد أحدثت الحملة تبرّما كبيرا لدى المواطنين : فهذا كلّف ابنه بمشوار قي وسط المدينة فإذا به يُعلم أنّ نجله محجوز قي مركز الشرطة وذاك يطالب باستخراج شهادة حضور مدرسية حتى يتمكّن من ّإخراج ابنه... وثالث ، ورابع...وإذا علمنا أنّ أحد معاني كلمة " رافل" باللغة الفرنسية هو نوع من الشِّباك يمكّن من صيد وفير ، نتبيّن ما يحدثه هذا النوع من الحملات من شعور بالسخط لدى المواطنين إذ أنّ " الشِّباك " تصطاد كلّ الشباب " والمركز يصفّي" أي أنّ كلّ شاب هو متهرّب من الخدمة العسكرية أم مطلوب للعدالة وعليه أن يُثبت عكس ذلك , منطق غريب لم نعهده طوال السنوات الأخيرة.
إنّ الخدمة العسكرية واجب وطني مقدّس، يجب أن نسموَ به فوق كلّ الاعتبارات وأن لا يتأثّر بأيّ ظرف أو بأيّ حال . وعلى السلطة واجب الحفاظ على هاته القدسية . وهي في اعتفادنا ليس فقط لم تقم بالشيء الكثيرمن أجل ذلك بل على العكس ، فقد ساهمت مساهمة كبيرة ، ومنذ عفود، في غرس تصوّر سلبي جدّا جدّا لهذا الواجب الوطني لدى الشباب.
- شباب الثمانينات يذكر جيّدا " رجيم معتوق " وكيف أنّ السلطة في ذلك الوفت استعملت واجبا مقدّسا كالخدمة العسكرية لمعافبة الطلبة الذين لم يصطفّوا لمزاجها.
- إنّ التصوّر الحاصل لدي جلّ المواطنين هو أنّ " خدمة العسكر " هي لأولاد " الشعب الكريم " أمّا أبناء المال والجاه والوجاهة فهم معفيّون من ذلك.
- كما يتصوّر معظم الشباب أن " عام العسكر هو عام " كرفي" وعام خسارة ، لا تحصل منه على شيء بل وتفوتك فرصة العمر قي الحياة المدنية قي تلك السنة"
- إنّ السلطة السياسية وعند رسم ملامح التونسي المراد تكوينه في برامجها التربوية لم تُفلح في اعتفادنا قي بلورة ذلك المجهود الفكري والتوق الوجداني الواجب على كلّ فرد القيام بهما ليرتبط المواطن بوطنه ارتباطا خالصا ، ساميا ، لا تشوبه شائبة. بل بالعكس ، وتحت ضغط اللبرالية المتوحّشة والفردانية المفرطة ، انفلتت الأمور واصبح الوطن والوطنية والتفاني والإلتزام الأخلاقي قيما تكاد تكون غريبة يتمسّك بها " الطافي" دون غيره.
- إنّ الحملات الأمنية التي عدلت عنها السلطة لعدّة سنوات ورجعت إليها هاته السنة ، تزيد الطين بلّة وتعمّق ذلك التصوّر السلبي للخدمة العسكرية ، وتزيد من نفور الشباب من هذا الواجب.
إنّ " ملف " الخدمة الوطنية في حاجة أكيدة وملحّة إلى مفاربة جديدة تسمو به فوق التفاعلات المجمعية وصراع الدولة والمجتمع ، وتخلّص هذا الواجب ممّا علق به من تصوّرات خاطئة وترسّبات سلبية. ومن المتأكّد أن يستبطن الشباب تصوّرا إيجابيّا لواجبه الوطني وذلك ب :
- التأسيس لبرنامج تحسيسي واضح المعالم، مستمرّ ومتعدّد الوسائط تقوم فيه عناصر الجيش الوطني بمهمّة مركزية قي التعريف بالخدمة الوطنية لدى تلاميذ المدارس مند التعليم الأساسي. وترغيبهم في الانضمام إلى المؤسسة والاعتزاز بالانتساب لها
- المزيد من تنويع جملة القيم والمعارف والمهارات التي تمكّن منها المجنّدين حتى تكون الإضافة واضحة وجلية بين المدخلات والمخرجات.
- إشاعة جوّ من الثقة" بين الشاب وواجب وطني يتساوى أمامه " ابن الوزير مع ابن الفرّاش" كما يقال ، وبشكل يشعر فيه المجنّد أنّه يقوم بواجب مطالب بالقيام به كل شاب في سنّه مهما كان وسطه الاجتماعي وانتماؤه الطبقي
- تبسيط إجراءات الانتساب وتوضيحها (تعميم صلاحية تسليم بطاقة الإحصاء العسكري على كلّ مراكز الحرس الوطني).
- تفريد الدعوة للخدمة المدنيindividualisation)) لما لهذا التفريد من أهمّية قي إبراز للذات وإعطاء صورة إيجابية لها . ويكون ذلك بإعفاء السلطة المدنية (العمدة، المعتمد) وبصفة تدريجية ، من مهمّة إجراءات التجنيد وحصرها في ممثّل الجيش في الحياة المدنية ونعني بذلك الحرس الوطني الذي يتكفّل بمسك قوائم التجنيد وإعلام المعنيّين شخصيّا ومنحهم فترة من الوقت تمكّنهم من تصريف شؤونهم والإستعداد لتلبية النداء أو إعداد ملفّ التأجيل أو الإعقاء أو الانخراط في منظومة الخدمة المدنية (التعينات الفردية) . وبهذا الشكل تحصل للشاب المُطالب بالخدمة العسكرية نوع من الرافقة النفسية والمعرفية والإدارية تمكّنه من تلبية النداء بكلّ تلقائية بل وبكلّ تحفّز...
إنّ هذه الإجراءات وغيرها التي نعتقد أنّ إطارات الجيش الوطني قادرة على استنباطها، من شأنها أن تجعل الشاب يستبطن صورة إيجابية وبنّاءة عن الواجب العسكري ويستعدّ لتلبية النداء بكلّ تلقائية. وحيث أنّه لا بدّ من سنّ إجراءات زجرية بحق المتهرّبين من تأدية الواجب ، فلا بدّ أيضا أن يستبطن الشاب صرامة هذه الإجراءات وعدالة تطبيقها . فالخدمة الوطنية واجب على كل شاب إلاّ من استثناه فانون عادل وشفّاف ، والإخلال بهذا الواجب له ثمن يحدّده فانون واضح وشفّاف ، على كلّ مخلّ دفعه مهما كان مركزه الاجتماعي أو وسطه العائلي.
هكذا وهكذا فقط نتخلّص من ظاهرة " الرافل" الذي عادة ما تطغى عليه الصبغة الاستعراضية ، وتتفرّغ مصالح الشرطة للقيام بالمهام المناطة بعهدتها في تطبيق القانون والسهر على أمن المواطن وراحته.
مقال جيّد ولكن لي اعتراض على الجملة التالية التي أراها تعبّر عن موقف إيديولوجي أكثر من تعبيرها عن واقع ملموس:
RépondreSupprimer"وتحت ضغط اللبرالية المتوحّشة والفردانية المفرطة ، انفلتت الأمور واصبح الوطن والوطنية والتفاني والإلتزام الأخلاقي قيما تكاد تكون غريبة "
يعني لو صدّقنا بهذا فإنّ بلدان مثل أمريكا أو بريطانيا سوف لن يوجد بين شبابها من يتسم بالوطنيّة، وهذا كما تعلمون غير صحيح، فالعديد من شباب هذه الدول مستعدّ لخوض الحروب والتضحية بحياته من أجل الوطن ولا من أجل سبعين من الحور العين
الليبراليّة والفردانيّة لا تؤثّر سلبا على الشعور بالمواطنة وبالوطنيّة، هناك عوامل أخرى تحدد مدى تعلّق الشخص بوطنه وحبّه له واستعداده للتضحية من أجله
@Big Trap Boy, merci pour ton intervention. Ton objection est tout à fait recevable... Tout dépend, en effet, de ce que l'auteur entend par "libéralisme exacerbé et individualisme"... Il est vrai que le modèle de société libéral n'est pas incompatible avec le patriotisme. Mais peut-être que par cette expression, il voulait évoquer la prégnance sur les esprits d'une approche étroitement matérialiste incompatible avec des idéaux qui transcendent le strict individualisme.
RépondreSupprimerشكرا على التوضيح
RépondreSupprimer:))