vendredi 18 septembre 2009

الحركة التّقدّميّة وسبل مقاومة الحيف الإجتماعي


نجحت الجامعة الصيفية المبادرة الوطنية من أجل الديمقراطية والتقدم إلى حدّ كبير وخاصّة في حصّتها الصباحية ليوم الأحد في تشخيص الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد وفي بداية بلورة مقترحات هامّة ستساهم حتما في توضيح ملامح أسس سياسة اقتصادية واجتماعية بديلة هاجسها الدّفاع عن مصالح الطبقات الوسطى والشعبية والسّعي إلى الحدّ من الحيف الاجتماعي الذي ما انفكّ يتفاقم منذ أواخر الثمانينات، كما أبرزت ذلك جلّ المداخلات التي تطرّقت لقضايا التعليم والتشغيل والجباية.

وفي انتظار أبحاث ودراسات أدق حول توزيع الدّخل القومي بين مختلف الطبقات الاجتماعية ومدى حيفه وحول الفوارق الجديدة التي نشأت وتعمّقت في نسيجنا الاجتماعي- وفي انتظار كسر جدار تكتم الإدارة عن هذه المعطيات الذي يحول دون توصّل الباحث أو السياسي إلى المعلومة في هذا الميدان الحسّاس- فإنّه من المهم أن تنقد الحركة التقدمية في البلاد الخطاب الدعائي للسّلطة وأن تثبت أنّه بمقدورها إبراز مواطن الحيف الاجتماعي في المنظومة الحالية والأسباب المتعدّدة التي أدّت إلى تراجع مكانة الطبقة الوسطى وتهميشها منذ عشريتين. كما يجب أن تظهر المبادرة بأكثر وضوح كمتبنيّة لحيرة العائلة التونسية المنتمية للطبقات الوسطى والشعبية وكحاملة لتطلّعاتها لغد أفضل لأبنائها- دون أن تقع في فخّ الخطاب الإيديولوجي والمزايدات العقيمة. فقد بيّنت أشغال الجامعة الصّيفية أنّ التطرق إلى القضايا التي تؤرق المواطن التونسي من منطلق منطق إصلاحي وبتمشّ برغماتي وذكيّ وبروز المبادرة كقوّة اقتراح حاملة لمشروع أمر ممكن وفي متناولنا.

بطالة أصحاب الشّهادات تنسف نموذج الإرتقاء الإجتماعي المبني على الجهد

فقد أبرزت المداخلات الأربع حول التعليم والتشغيل والجباية والسياسة الاقتصادية البديلة نقائص وهنّات السياسة الحالية وساعدت السياسيين- بنسب متفاوتة - على تصوّر سبل التدخّل للإصلاح وفي مرحلة أولى إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد اتضح من مداخلة الأستاذ محمود بن رمضان أنّ الأزمة التي يمرّ بها التعليم في تونس عميقة جدّا وهي بصدد تحقيق انقلاب خطير في قيمنا الكبرى وإنتاج نموذج جديد للارتقاء الاجتماعي سوف يعوض نموذج الارتقاء عن طريق المجهود الشخصي والشهادة العلمية. فإن تراجع مستوى تعليمنا وتنامي ظاهرة بطالة أصحاب الشهادات العليا يضربان في الصميم قيمة المجهود الشخصي ومكانة العلم والمعرفة التين أنبنى عليهما المجتمع التونسي منذ القرن التاسع عشر وينسفان بذلك مبدأ أساسيا في تصوّرنا للمجتمع الأفضل وهو مبدأ تكافؤ الفرص. إنّ فكّ الارتباط بين الشهادة العلمية والشغل، بما يعنيه من عيش كريم، يجعل هذا الأخير رهين اتّساع شبكة علاقات الفرد وهو ما يعيد على أرض الواقع منطق اجتماعي خلناه ولّى وانتهى بفضل دولة الاستقلال ونخبها التي تصدّت للتصوّرات الإقطاعية للمجتمع التونسي.

لكن وعلى أهميتها فإنّ المنظومة التربوية ليست المدخل الوحيد لقضية التشغيل التي ترتبط كذلك بالمنظومة الاقتصادية والسياسية. فظاهرة بطالة أصحاب الشهادات هي أيضا رهينة قدرة الاقتصاد التونسي على خلق مواطن شغل ليد عاملة متكوّنة وعلى تدعيم التأطير في المؤسسة. كما تتطلّب مقاومة هذه الظاهرة إيقاف تراجع الاستثمار الخاصّ الوطني الذي لم تساعد مختلف التشجيعات والإعفاءات على الحدّ منها. ولعلّ سبب هذا التراجع يكمن في علاقة عملية الاستثمار بمقروئية دنيا للمستقبل من جهة وبثقة المستثمر في الإطار القانوني والمؤسساتي للعبة الاقتصادية من جهة أخرى. إنّنا أمام قضيّة سياسية بالأساس. فإنعاش الاستثمار الوطني الخاصّ يستوجب إحلال مناخ ثقة في قواعد اللّعبة وفي المؤسسات ,خاصّة القضائية منها.

الإصلاح الجبائي أنجع مدخل لمقاومة الحيف الإجتماعي.

ولا شكّ أن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها إلا على المدى المتوسط لكن هنالك في المقابل ميدان يمكن التوصّل فيه وبسرعة إلى إصلاح ذي نجاعة في ما يخصّ الحدّ من تفاقم الحيف الاجتماعي، وهو الجباية. فقد أبرزت مداخلة الأستاذ فتحي السّلاوتي أنّ السياسة الجبائية المتبعة منذ عشريتين هي سياسة غيرعادلة قد أثقلت كاهل الأجراء مقابل تسامح مبالغ فيه وغير مبرّر أحيانا إزاء مجموعات أخرى وخاصّة إزاء رأس المال، وكأنّ الهدف من ورائها ليس التقليص من الفوارق الاجتماعية بل تعميقها !

إنّ ملامح السياسة الجبائية البديلة واضحة. فعليها أوّلا أن تقوم بتحيين السّلم الجبائي فتأخذ بعين الاعتبار التضخّم المالي الذي تراكم منذ الثمانينات وتخفّف بذلك الضريبة على العائلات ذات الدّخل المحدود والمتوسّط. كما عليها أن تضع حدّا للامتيازات التي تصل حدّ الإعفاء المطلق والتي لم تعد لها جدوى اقتصادية - طالما انتفعت بها المشاريع السياحية والعقارية وأرباح البورصة مثلا. وعليها ثالثا أن تعمل بجدّ على مقاومة التهرّب الجبائي المستفحل والذي يشمل - حسب مصادر رسميّة - على الأقل 40% من المعنيين بالضريبة على الشركات. وسينجح مثل هذا الإصلاح الجبائي في الحدّ من تفاقم الحيف الاجتماعي وتحسين القدرة الشرائية للطبقات الشعبية والوسطى أكثر مما تساهم به الزيادات في الأجور التي تفضي إليها المفاوضات الاجتماعية.

هكذا يكون الإصلاح الجبائي أهمّ وأنجع مدخل لمقاومة الحيف الاجتماعي وركيزة من ركائز سياسة اقتصادية بديلة, كما أبرز ذلك السيّد طارق الشعبوني في المداخلة الأخيرة التي احتوت في نفس الوقت على الجانب التحليلي والاقتراحات العملية.

إنّ الطبقات الوسطى في تونس أصبحت تنظر إلى السبعينات "كعهد ذهبي" جمع بين رفاه اقتصادي ومناخ من المساواة، وهي اليوم حائرة ومتشائمة يحدوها القلق على مستقبل أبنائها وبناتها. إنّ على اليسار أن يأخذ هذه الحيرة مأخذ الجدّ وأن يتبنى سياسة تسعى إلى الحدّ من الحيف وترجع الثقة في المستقبل لشرائح واسعة من الشعب التونسي, شعاره في ذلك أنّ ما أصاب هذه الطبقات ليس من قبيل العوامل الموضوعية بل هو نتيجة سياسات اقتصادية. وما "حبكته" إرادة سياسية سوف تنجح في حلّه سياسة مختلفة.

بكار غريب

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire