في منتصف ديسمبر 1924 سافر محمد علي و رفيقه محمد الخياري إلى المتلوي ليقنعوا عمال المنجم، و كان عددهم آنذاك 20 ألف، بتكوين نقابة تدافع عن مصالحهم و تنضوي تحت الجامعة العامة لعموم العملة التونسية. و بعد لقاء أول فسر فيه الرفيقان أساليب العمل النقابي و أهدافه، تم الاتفاق على موعد ثان للتعرف على قرار العمال في الغرض. لكن لما قدم محمد علي إلى ميدان الاجتماع قوبل بالغضب و الشتم و اللعن، إذ قيل للعمال أنه أتى ليسلب أموالهم و ليعطي أسماء الفارين من الجندية للحكومة. فخطب فيهم محمد علي هذا الخطاب :
"يا اخواني اسمحوا لي للمرة الأخيرة أن أكلمكم و لكم بعد ذلك أن تقبلوا أو ترفضوا، أريد أن أسألكم هل أنتم مسلمون؟
فأجابوه : نعم.
و هل تصدقون بآيات القرآن إذا تليت عليكم؟
فقالوا : من دون شك.
إذن فاستمعوا إلي، قال الله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر" ... الآية معناها أن الله تعالى قد جعل هذه الأمة الاسلامية أحسن الأمم التي ظهرت في العالم بما تحلت به من الصفات المجيدة إذ هي تقوم بواجب الارشاد و التعليم في الناس بأمرها بالمعروف و نهيها عن المنكر، و لقد استطاع المسلمون الأولون أن يكونوا حقيقة خير الناس و ساستهم كما قال القرآن عنهم، و ناهيكم أنهم هم الوارثون الأوحدون في وقتهم لمدنيات العالم القديمة، و المجددون لها، النافخون فيها روح الحياة و النمو، فسجلوا بذلك لهم فخراً خالداً في التاريخ، و لكن هل يظن أحد أننا نحن أبناء أولئك الأمجاد قد ورثنا عنهم ذلك الفخر الخالد؟ كلا، كلا فنحن الآن أبناء المذلة و الفاقة و الجهل الفتاك، يسهرنا الجوع بحرارته، و يذيبنا البرد بلذاعاته، و يغل رقابنا الجهل، و يقيد أيدينا العمل لأنفسنا فنرتمي على اعتاب المستثمرين، و هم يدركون من عجزنا و جهلنا بطرق الحياة فيستثمرون ذلك لهم، و هكذا نقضي نحن و أهلنا و أبناونا الصغار حياة مرة و أليمة لا ذرة فيها من الرحمة، و ليس لنا فيها غير التوجعات و التأوهات و الحمل على الأقدار التي شاءت، و يجب الإذعان لمشيئتها القاسية، و مع ذلك فإننا أمام هذه الحالة المبيدة لعنصرنا قد هيأنا لها من أخلاقنا ما يزيدها علينا طغياناً، فبعد الألفة و المحبة و الاتحاد الذي ثبت به الأجداد حتى في الحروب الهائلة أمام الأشلاء الممزقة، و الدماء المتدفقة، و الرؤوس النازلة عن أجسادها، بعد كل ذلك أصبحنا مفككي الروابط، لا صلة لواحد منا بأخيه، بل بالعكس انقلبنا إلى شياطين أرسلت للفتك ببعضها، فلا ترى غير الخداع و الوشايات السافلة و التظليل عن الحق.
اعتبروا أيها الإخوة بأنفسكم و قولوا لي : ما هي حياتكم التي تقضونها في هذا المنجم تحت أخطار السقوط و الموت حرقاً بالمواد الملتهبة، أو ردماً تحت الأدماس؟ ثم ما هي حياة السالم منكم بالروح غير معاش أبتر، و أجر أقصر، و هو يقوم بنفقة عائلة يستغرق الدين ذمته من أجلها، و لا يكفيها، فيقضي أيامه رقيقاً لدائنيه ضعيف النفس خائر القوة ذاهلاً عن وجوده يائساً من نفسه، لا يبالي إن وقع في الشر أو وقع الشر فيه، يتسلى باللهو الخاسر، يدفع دراهمه ثمناً لشرب السموم، و يرمي بها في بؤرة الميسر لتمضية الوقت و يتعزى حتى بإرتكاب الآثام و الجنايات.
قبل يومين كنت مع السيد المهندس فذكر لي أنكم كسالى، تفضلون خسارة ما عندكم في البطالة على العمل الذي تربحون منه جديداً تضيفونه إلى ما عندكم، ها أني أراكم أمامي الآن في يوم راحتكم، فلا أرى غير وجوه منقبضة من البؤس، و أطمار مرقعة على الأجساد التي صيرها غبار المنجم خلقاً آخر، و أنتم ترون بأعينكم الأوروبيين الذين يشتغلون بجواركم كيف يستقبلون أيام راحتهم كالأعياد، فتشاهدون في غيركم الحياة التي لا عمل لكم فيها، و ما هي إلا ضرورة لازمة لكم لو عرفتم الطريق إليها.
حقاً انكم معذورون في جهل الطريق و يا للأسف، و لكني آسف أكثر من ذلك و يستوعبني العالم من كل جهة، فأستغرق في الدهس و الحيرة حينما أراكم تأبون معرفة الطريق، و ترفضون بشدة من يدلكم عليه.
لقد أدخلوا في أذهانكم أني أقصد لأخذ أموالكم و أخذ أسمائكم للجندية فراج ذلك عليكم، و لكن أي مال عندكم حتى يسافر الإنسان من بلد لآخر ليأخذه، و هل طالب المال يجده عندكم؟ ثم انكم جميعاً تشكون قلة الأجور و الاحتياج الناتج لكم من ذلك، فرأيت أن علاجكم يكون بتأسيس نقابة لكم تختارون أعضاءها من بينكم، و يكون كل شأنكم بأيديكم، و واجبنا أن نتعهدكم بالنصيحة و الإرشاد لما يخصكم، لتفهموا جلياً معنى اشتراككم مع سائر نقابات الوطن، فتبذلو جميعاً جهوداً متحدة تعود نتائجها لكم جميعاً، فهل في هذا ما يخيفكم؟ ثم هل تظنون أنكم تشتغلون هنا دون أن توضع أسماؤكم في سجل الشغل؟ فما احتياجي لأخذها من أفواهكم لو جئت لهذا العمل؟؟؟
جاء الوقت لتفهموا حقيقة واجبكم نحو الحياة لتفتح لكم الحياة ذراعيها، و لكي تفهموا ذلك، يلزمكم أن تحفظوا عقولكم أم يدس فيها المفسدون الآثمون الإفك و الزور طمعاً في استغلالكم بلا رحمة.
ما كنت أظن أن كلماتي الأولى في الاجتماع الأول الصادرة من أعماق قلبي تزن عندكم وزن الإفك و الزور الذي تقوله أعداءكم عني، و هم يرومون به كيدكم وإخفاقي فيما أحاول من أجلكم، و على كل حل لا أريد أن لأظطركم جبراً للإعتقاد بما أقول، و لأؤكد لكم ذلك فها إني أبارح المكان عائداً من حيث أتيت، و بعد ذلك يمكنكم أن تفكروا في الأمر لتفهموا الحقيقة التي جئتكم بها، ها أنا ذاهب، السلام عليكم".
إلى هنا انتهى كلام النقيب و هو يضع رجله للخروج من الاجتماع، لكنه لم يتمكن من ذلك فقد نفذ سهمه في القلوب، و أصاب رنين صوته الحامي المشاعر فحرك أوتارها بالخجل و الاعتراف بالهفوة و انطلاء الحيلة، و لقد بكى بعضهم من شدة ما تأثر بما سمع و بما رأى، و التف جمهورهم بالنقيب و رفيقه و هم في نهاية التأثر و الامتنان للنقيب الذي ما عهدوا قبله من يهتم بهم فيأتيهم من مكان بعيد ليقيم معهم (في مكان مغبرة ارجاؤه *** كأن لون أرضه سماؤه) يعظهم بحوادث الأيام، و يعطيهم درساً وضحاً في آلامهم و أسباب آلامهم، و يرشدهم لأفضل السبل الناجحة للخروج إلى الحياة اللائقة بالإنسان في هذا العصر الذي نمت فيه محبة الحياة.
الطاهر الحداد، العمال التونسيون و ظهور الحركة النقابية، ص 173 إلى ص 176.
"يا اخواني اسمحوا لي للمرة الأخيرة أن أكلمكم و لكم بعد ذلك أن تقبلوا أو ترفضوا، أريد أن أسألكم هل أنتم مسلمون؟
فأجابوه : نعم.
و هل تصدقون بآيات القرآن إذا تليت عليكم؟
فقالوا : من دون شك.
إذن فاستمعوا إلي، قال الله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر" ... الآية معناها أن الله تعالى قد جعل هذه الأمة الاسلامية أحسن الأمم التي ظهرت في العالم بما تحلت به من الصفات المجيدة إذ هي تقوم بواجب الارشاد و التعليم في الناس بأمرها بالمعروف و نهيها عن المنكر، و لقد استطاع المسلمون الأولون أن يكونوا حقيقة خير الناس و ساستهم كما قال القرآن عنهم، و ناهيكم أنهم هم الوارثون الأوحدون في وقتهم لمدنيات العالم القديمة، و المجددون لها، النافخون فيها روح الحياة و النمو، فسجلوا بذلك لهم فخراً خالداً في التاريخ، و لكن هل يظن أحد أننا نحن أبناء أولئك الأمجاد قد ورثنا عنهم ذلك الفخر الخالد؟ كلا، كلا فنحن الآن أبناء المذلة و الفاقة و الجهل الفتاك، يسهرنا الجوع بحرارته، و يذيبنا البرد بلذاعاته، و يغل رقابنا الجهل، و يقيد أيدينا العمل لأنفسنا فنرتمي على اعتاب المستثمرين، و هم يدركون من عجزنا و جهلنا بطرق الحياة فيستثمرون ذلك لهم، و هكذا نقضي نحن و أهلنا و أبناونا الصغار حياة مرة و أليمة لا ذرة فيها من الرحمة، و ليس لنا فيها غير التوجعات و التأوهات و الحمل على الأقدار التي شاءت، و يجب الإذعان لمشيئتها القاسية، و مع ذلك فإننا أمام هذه الحالة المبيدة لعنصرنا قد هيأنا لها من أخلاقنا ما يزيدها علينا طغياناً، فبعد الألفة و المحبة و الاتحاد الذي ثبت به الأجداد حتى في الحروب الهائلة أمام الأشلاء الممزقة، و الدماء المتدفقة، و الرؤوس النازلة عن أجسادها، بعد كل ذلك أصبحنا مفككي الروابط، لا صلة لواحد منا بأخيه، بل بالعكس انقلبنا إلى شياطين أرسلت للفتك ببعضها، فلا ترى غير الخداع و الوشايات السافلة و التظليل عن الحق.
اعتبروا أيها الإخوة بأنفسكم و قولوا لي : ما هي حياتكم التي تقضونها في هذا المنجم تحت أخطار السقوط و الموت حرقاً بالمواد الملتهبة، أو ردماً تحت الأدماس؟ ثم ما هي حياة السالم منكم بالروح غير معاش أبتر، و أجر أقصر، و هو يقوم بنفقة عائلة يستغرق الدين ذمته من أجلها، و لا يكفيها، فيقضي أيامه رقيقاً لدائنيه ضعيف النفس خائر القوة ذاهلاً عن وجوده يائساً من نفسه، لا يبالي إن وقع في الشر أو وقع الشر فيه، يتسلى باللهو الخاسر، يدفع دراهمه ثمناً لشرب السموم، و يرمي بها في بؤرة الميسر لتمضية الوقت و يتعزى حتى بإرتكاب الآثام و الجنايات.
قبل يومين كنت مع السيد المهندس فذكر لي أنكم كسالى، تفضلون خسارة ما عندكم في البطالة على العمل الذي تربحون منه جديداً تضيفونه إلى ما عندكم، ها أني أراكم أمامي الآن في يوم راحتكم، فلا أرى غير وجوه منقبضة من البؤس، و أطمار مرقعة على الأجساد التي صيرها غبار المنجم خلقاً آخر، و أنتم ترون بأعينكم الأوروبيين الذين يشتغلون بجواركم كيف يستقبلون أيام راحتهم كالأعياد، فتشاهدون في غيركم الحياة التي لا عمل لكم فيها، و ما هي إلا ضرورة لازمة لكم لو عرفتم الطريق إليها.
حقاً انكم معذورون في جهل الطريق و يا للأسف، و لكني آسف أكثر من ذلك و يستوعبني العالم من كل جهة، فأستغرق في الدهس و الحيرة حينما أراكم تأبون معرفة الطريق، و ترفضون بشدة من يدلكم عليه.
لقد أدخلوا في أذهانكم أني أقصد لأخذ أموالكم و أخذ أسمائكم للجندية فراج ذلك عليكم، و لكن أي مال عندكم حتى يسافر الإنسان من بلد لآخر ليأخذه، و هل طالب المال يجده عندكم؟ ثم انكم جميعاً تشكون قلة الأجور و الاحتياج الناتج لكم من ذلك، فرأيت أن علاجكم يكون بتأسيس نقابة لكم تختارون أعضاءها من بينكم، و يكون كل شأنكم بأيديكم، و واجبنا أن نتعهدكم بالنصيحة و الإرشاد لما يخصكم، لتفهموا جلياً معنى اشتراككم مع سائر نقابات الوطن، فتبذلو جميعاً جهوداً متحدة تعود نتائجها لكم جميعاً، فهل في هذا ما يخيفكم؟ ثم هل تظنون أنكم تشتغلون هنا دون أن توضع أسماؤكم في سجل الشغل؟ فما احتياجي لأخذها من أفواهكم لو جئت لهذا العمل؟؟؟
جاء الوقت لتفهموا حقيقة واجبكم نحو الحياة لتفتح لكم الحياة ذراعيها، و لكي تفهموا ذلك، يلزمكم أن تحفظوا عقولكم أم يدس فيها المفسدون الآثمون الإفك و الزور طمعاً في استغلالكم بلا رحمة.
ما كنت أظن أن كلماتي الأولى في الاجتماع الأول الصادرة من أعماق قلبي تزن عندكم وزن الإفك و الزور الذي تقوله أعداءكم عني، و هم يرومون به كيدكم وإخفاقي فيما أحاول من أجلكم، و على كل حل لا أريد أن لأظطركم جبراً للإعتقاد بما أقول، و لأؤكد لكم ذلك فها إني أبارح المكان عائداً من حيث أتيت، و بعد ذلك يمكنكم أن تفكروا في الأمر لتفهموا الحقيقة التي جئتكم بها، ها أنا ذاهب، السلام عليكم".
إلى هنا انتهى كلام النقيب و هو يضع رجله للخروج من الاجتماع، لكنه لم يتمكن من ذلك فقد نفذ سهمه في القلوب، و أصاب رنين صوته الحامي المشاعر فحرك أوتارها بالخجل و الاعتراف بالهفوة و انطلاء الحيلة، و لقد بكى بعضهم من شدة ما تأثر بما سمع و بما رأى، و التف جمهورهم بالنقيب و رفيقه و هم في نهاية التأثر و الامتنان للنقيب الذي ما عهدوا قبله من يهتم بهم فيأتيهم من مكان بعيد ليقيم معهم (في مكان مغبرة ارجاؤه *** كأن لون أرضه سماؤه) يعظهم بحوادث الأيام، و يعطيهم درساً وضحاً في آلامهم و أسباب آلامهم، و يرشدهم لأفضل السبل الناجحة للخروج إلى الحياة اللائقة بالإنسان في هذا العصر الذي نمت فيه محبة الحياة.
الطاهر الحداد، العمال التونسيون و ظهور الحركة النقابية، ص 173 إلى ص 176.
