إن رفض المجلس الوطني التأسيسي إدراج شهداء و جرحى الحوض المنجمي ضمن شهداء و جرحى الثورة ليس بالأمر الهين . فهو لا يقتصر على مجرد ظلم لبضعة مواطنين و عائلاتهم سيتم اقصاؤهم بهذه الطريقة من حقهم في تعويضات مادية و معنوية مشروعة . و هو لا يطرح مجرد مسألة فنية يجب تركها إلى السجالات الأكاديمية بين مؤرخي الثورة في المستقبل . بل إن لهذا الرفض دلالات سياسية عميقة لأنه يوحي بأن السلطة الحالية ليست مدركة - عن وعي أو عن غير وعي - لروح الثورة و معناها الحقيقي ، و هو ما يساعد كذلك على فهم تعثراتها الحالية سنتان بعد سقوط نظام بن علي و سنة بعد صعودها إلى سدة الحكم و يفسر بالخصوص حالة الإحتقان التي تعيشها البلاد في جهاتها الداخلية . لكن قبل أن نتساءل عن مدى مشروعية إعتبار إنتفاضة الحوض المنجمي كمنبع من منابع الثورة بل قل بدايتها الحقيقية يجب علينا العودة إلى تلك الملحمة البطولية و التذكير بأهم مجرياتها و محطاتها لكل من كان آنذاك غائباً إن جسدياً أم سياسياً .
فقد شاهد شتاء 2008 في مدن الرديف و المظيلة و المتلوي و أم لعرايس إندلاع حركة احتجاجية هائلة ضد منظومة التشغيل الفاسدة القائمة على المحسوبية و الزبونية بشركة الفسفاط الذي تعد المشغل الأساسي بالجهة . هذه الحركة ستتواصل لمدة اسابيع رافعة مطالب التشغيل و التنمية و الكرامة متحولة و بسرعة إلى إحتجاج إجتماعي و سياسي ضد منظومة الإستبداد . كما ستواجه حصاراً أمنياً طيلة ستة أشهر و ستعطي لقضيتها سجناء و جرحى و شهداء من بينهم الشهيد الحفناوي المغزاوي الذي أعطى إسمه إلى إحدى أغاني الفنانة الملتزمة بديعة بوحريزي . و بالرغم من نجاح الإستبداد في تطويق هذا الحراك عن طريق قمع وحشي أولاً و توظيف القضاء ثانياً إلا أن هذا النجاح كان ظاهرياً و مؤقتاً . لأن إنتفاضة الحوض المنجمي حققت الأهم و هو كسر حاجز الخوف عند التونسيين . كما نجحت في إنتاج الكلمات و الشعارات التي أثثت المطالب حول حق الشغل و الكرامة إلى جانب توجيه إصبع الإتهام إلى منظومة الفساد التي كانت تحكم البلاد . و هذا الحراك الإجتماعي نجح بالأساس في زرع روح الإنتفاضة مخلفاً احتجاجات مماثلة تتالت بعده إنطلاقاً من فريانة ثم الصخيرة ثم بن قردان وصولاً إلى سيدي بوزيد التي نجحت على خلاف سابقاتها في الإمتداد و الإنتشار مطيحة بنظام بن علي .
لكن تزامن إمتداد الحركة الاحتجاجية و وصولها إلى صفاقس و تونس مع تحول ملحوظ لأهم شعاراتها فغاب "التشغيل إستحقاق يا عصابة السراق" الذي رفع في انهج الرقاب و منزل بوزيان و ظهر "ديقاج" الذي رفع في شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 جانفي . و بالرغم من أن 17 ديسمبر و 14 جانفي يمثلان مرحلتين متكاملتين للثورة و ضروريتين لنجاحها و بالرغم من أن شعار "ديقاج" قد وحد التونسيين وراء مطلب رحيل بن علي و عائلته فإنه بات من الواضح أن الحركة الاحتجاجية قد فقدت بوصولها إلى العاصمة محتواها الإجتماعي و الترابي . لكن لا يمكن لهذا التحول في الشعارات أن ينسينا أن قضايا الكرامة و العادلة الإجتماعية و الجهوية هي التي مثلت مصدر الثورة و روحها و أن الجهات الداخلية هي التي دفعت أغلى ضريبة للتحرر و الاطاحة بالإستبداد ! و من هنا يبدو واضحاً أن فهمنا للثورة و اهدافها سوف يختلف بإختلاف المرحلة التي نختارها للتعريف بها . فإذا عرفنا بها عن طريق لحظة 14 جانفي و مطلب رحيل بن علي ، سوف يقتصر فهمنا لها على مجرد اطاحة بمنظومة الإستبداد الفاسدة التي كانت تحكم البلاد و تعويض النخب الحاكمة القديمة بنخب جديدة عن طريق إنتخابات ديمقراطية و شفافة . و هذه القراءة للثورة هي بالذات في نظرنا قراءة الترويكا التي تبدو قاصرة على إدراك محتواها الإجتماعي و الجهوي .
فعلاً إن هذه القراءة الضيقة للثورة (المستبعدة لطابعها الإجتماعي و الجهوي) من طرف الترويكا قد تجلت بوضوح على الصعيد السياسي أولاً ، لما اختارت مكوناتها أن تلعب الإنتخابات حول قضية الهوية على حساب القضية الإقتصادية و الإجتماعية . كما ظهرت كذلك بصفة موضوعية ، أي على الميدان ، بتواصل و تعمق حالة الإحتقان و الغضب بالجهات الداخلية حيث تنامى الحراك الإجتماعي المذكر بمطالب التشغيل و التنمية و الذي يجابه أحياناً بالقمع كما كان الحال في أحداث سليانة مؤخراً . و هي تظهر اليوم على الصعيد الرمزي عن طريق إقصاء شهداء و جرحى الحوض المنجمي من القانون المنظم للتعويضات لشهداء و جرحى الثورة .
إذن يرى المتأمل في هذه القضية أن هذا الإقصاء ليس محض الصدفة بل أن له على العكس سبب عميق يكمن في هذه القراءة الضيقة للثورة المقتصرة على إقصاء النظام السابق و رموزه من حلبة السياسة و المواطنة . و إن لأكبر دليل على ذلك هو أن رئيس الحزب الحاكم اليوم يلقب ب"ضمير الثورة" رابطات "حماية الثورة" التي اختصت على حد تعبيرها في ملاحقة و محاربة "ازلام و فلول النظام السابق" بينما يعتبر في الوقت نفسه كجزء من الثورة المضادة أولئك الذين يتحركون في الجهات الداخلية مطالبين بالتشغيل و التنمية لأنهم يذكرونه باحتجاجاتهم المتواصلة أن الشرعية الإنتخابية لا تكفي لبلوغ المشروعية و أن هذه الأخيرة سوف تتحقق عندما نبدأ في انجازات ملموسة لصالح الجهات المهمشة و المقصية أو على الأقل عندما نظهر إرادة سياسية صادقة و قوية في هذا الإتجاه !
إن إقصاء ملحمة الحوض المنجمي لسنة 2008 من ديناميكية الثورة التونسية يعتبر خطأً مضاعفاً . أولاً لأنه يتجاهل المساهمة الأساسية لمناضلي و أهالي الحوض المنجمي في إسقاط منظومة الإستبداد . و ثانياً و بالخصوص لأنه يحمل في طياته تجاهلاً و تناسياً لروح الثورة و لمطالبها المتأكدة و المتعلقة بالتشغيل و التنمية الجهوية و هو ما يساهم في تعميق حالة الإحتقان في الجهات الداخلية . و من هذا المنطلق يعتبر رد الإعتبار لإنتفاضة الحوض المنجمي باقحامها في سيرورة الثورة ضرورةً ليس من باب العدل في الذاكرة فقط و انما كذلك لدعم حظوظ النجاح لمسار الإنتقال الديمقراطي في بلادنا .
بكار غريب
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire