vendredi 23 décembre 2011

«التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق»



أول مرة سمعت فيها هذا الشعار كان ذلك عبر مشاهدة مقطع فيديو على «الفايسبوك» يعرض جزءا من مسيرة احتجاجية في مدينة الرقاب خلال الأيام الأولى من الحركة الاجتماعية التي أثمرت  ميلاد الثورة التونسية بعد ثلاثة أسابيع، وبمجرد سماعه آدركت قوته وما كان يحمله من معان ثورية، لأنه سمى المسميات بأسمائها، ولأنه أعرب بطريقة مباشرة وبسيطة عن حقيقة قلق اجتماعي، بل قل حيف اجتماعي، وكما كان يقول لينين «الحقيقة وحدها ثورية»!
فعلا إن هذا الشعار نجح في كشف حيف، وفي تعيين المسؤولين عنه، لكنه نجح كذلك في الربط بين هذه الآفة الاجتماعية من جهة وبين الفساد في أعلى هرم السلطة من جهة أخرى.
فلكل هذه الأسباب يمثل هذا الشعار في نظري خلاصة وعصارة روح ثورة «الكرامة والحرية»، ولكن ما الذي ذكّرنا بهذا الشعار اليوم؟ لماذا عاد يخامر أذهاننا بعد أن هتفت به حناجر المحتجين في سيدي بوزيد، ثم في كل ربوع البلاد؟ لعله لأن خلال هذه السنة وإن نجحنا في تنظيم أول انتخابات حرة وفي تشكيل المجلس التأسيسي، فإننا لم نفعل شيئا للاستجابة لأهم مطالب  الثورة، بل بالعكس، فعلى صعيد التشغيل ازدادت الوضعية تأزما!
نعم، فإن يوم اندلاع الثورة كانت تونس تعد 500 ألف عاطل عن العمل، من بينهم 160 ألف حامل شهادة عليا، أما اليوم فإنها تعد قرابة 800 ألف عاطل عن العمل، من بينهم ما يفوق 200 ألف من حاملي شهادات عليا، وإن كان جزء هام من هذه البطالة الاضافية تعود الي ظروف ما بعد الثورة (اختلال الأمن، عدم الاستقرار وتفجر المطالب الاجتماعية) واخرى جهوية (اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا) وهو بذلك مرشح الى التراجع اذا  زالت مسبباته، هذا لا  يخول لنا تناسي ملف البطالة ولا يسمح بعدم إيلائه الأولوية المطلقة من بين الملفات الاجتماعية المطروحة أمام قادة البلاد الجدد.
علينا التذكير هنا، بإن البطالة التي ورثناها عن النظام البائد تكتسي طابعا هيكليا وهي ظاهرة معقدة لا يمكن فهمها بمعزل عن قضايا اقتصادية وصناعية وديمغرافية وتربوية، ولا يمكن حلها بعصا سحرية، لكن صعوبة المهمة لا تبرر تناسيها أو ارجاءها، ولا تبرر بالخصوص غياب اجراءات فورية من شأنها التخفيف من وطأة البطالة على ضحاياها، وذلك في انتظار الشروع في الاصلاحات الهيكلية اللازمة!
هذه الاجراءات الفورية مؤكدة، خاصة أن البطالة تعيد انتاج  أكثر من حيف اجتماعي، فإنها تطال بالأساس الشباب أكثر من الكهول والشباب الحامل لشهادات عليا أكثر من الشباب غير المتعلم والشباب الحامل للشهادات بالجهات الداخلية أكثر من الشباب الحامل للشهادات العليا القاطنين بالسواحل، وفي الأخير النساء أكثر من الرجال، فإن أردنا رسم صورة ضحية البطالة في تونس اليوم، يمكن القول بأن العاطل عن العمل هو غالبا امرأة شابة تحمل شهادة عليا قاطنة بالجهات الداخلية.
ومن هنا فإننا نتوجه الى السادة والسيدات النواب والنائبات ممثلي «الترويكا» في الملجس التأسيسي، وبعد تهنئتهم على الفوز بثقة مواطنينهم، مذكرين إياهم بأن هذه القضايا هي التي كانت مصدر الثورة، وإن الشعب التونسي ينتظر أداءهم على هذا الميدان، إننا نأمل أن نراهم منكبين على معالجة هذه المعضلة في أقرب الآجال وبصفة ملموسة، ولا تنسوا أيها السادة أن التشغيل استحقاق...
بكار غريب

dimanche 11 décembre 2011

حركة التحديد ومستقبل القطب: خواطر حول متطلبات المرحلة ومفارقاتها


هناك شبه اجماع على تشخيص الوضع السياسي في تونس اليوم: فشل ذريع للتيار التقدمي والحداثي، الذي اختار أن يذهب منقسما ومشتتا لانتخابات المجلس التأسيسي، مقابل فوز مبين لحركة النهضة وحلفائها. وبقدر ما يبعث هذا المعطى السياسي الجديد على مخاوف تتعلق بتحرير دستور الجمهورية الثانية، وما ستفرزه علاقة القوى المختلة لصالح التيار المحافظ داخل المجلس التأسيسي من خيارات حضارية واجتماعية ستنحت صورة المجتمع التونسي لجيلين على الأقل، بقدر ما يفرض على المعسكر التقدمي ترتيب بيته وتنظيم صفوفه حتى يجابه كأحسن ما يكون الاستحقاق الانتخابي القادم. وهذه العملية تكتسي خطورة قصوى فيكاد يجزم أغلب الملاحظين بأن الانتخابات القادمة التي ستجري حالما ينهي المجلس التأسيسي أشغاله، تمثل فرصة «تدارك» التيار التقدمي إن فشل في استغلالها يكون بذلك قد ساهم في اعطاء مقاليد البلاد ومفاتيحها لحركة النهضة لزمن طويل.
المطروح اذن على القوى التقدمية اليوم، الى جانب التحلي باليقظة ومواصلتها الضغط على المجلس التأسيسي من داخله ومن خارجه، حتى لا ينحاز في تمشيه عن الأهداف التي رسمتها الثورة التونسية (حرية، كرامة ومواطنة) هو التفكير في أقوم السبل السياسية التي ستمكنه من تفادي هزيمة ثانية تكون هذه المرة قاتلة لتونس التقدمية والحداثية. ومن البديهي أن يتنزل الحديث عن مستقبل حركة التجديد والقطب (الذي مثّل التجديد نواته وقاطرته) في هذا الإطار.

1) حول الحزب الديمقراطي الكبير
وفي هذا المضمار، لا بد من الاقرار بأن نتائج انتخابات 23 أكتوبر كان لها الفضل على التقدميين في تونس بمساهمتها في احتداد الوعي لديهم بضرورة وتأكد توحيد الصفوف لمجابهة الانتخابات المقبلة، ويبدو أن تعمق الوعي الوحدوي الى حد الاتفاق لدى البعض على الصيغة التي سيتخذها التمشي الوحدوي، والتي ستكون أداة الصراع المثلى: وهي الحزب الديمقراطي الكبير الذي سيلم ويجمع كل القوى التقدمية. وهنا تكمن المفارقة الأولى، الى جانب  صعوبات عملية كبرى كذلك.
المفارقة هي أن أكبر المنهزمين في الانتخابات هو «القطب»، ومن خلاله «التجديد», ظهر كصاحب الخيار الاستراتيجي الصائب، لما طالب القوى الديمقراطية، وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل بتكوين تحالف انتخابي لمجابهة استحقاق 23 أكتوبر، ولكن تجاهل هذان الطرفان نداء الوحدة والتحالف، وخيّرا خوض المعركة كل على حدة. وهذا المعطى العصي يجعلنا نتساءل حول حظوظ تحقيق هذا الهدف، أي انصهار كل الأحزاب التقدمية في حزب واحد كبير. فكيف لطبقة سياسية لم تظهر الاقتناع الكافي بضرورة تكوين تحالف وخوض الانتخابات بقوائم موحدة أن تنجح بين عشية وضحاها في تجاوز كل العقبات والزعامات والحزبيات الضيقة لتقرر انصهارها كلها، وفي وقت وجيز، في حزب واحد؟ أليس في مثل هذا الطرح قفز على الواقع؟ ربما يستند دعاة هذا السيناريو الى «ضرورة تاريخية»، ويعللون تمشيهم بتغير المشهد السياسي بعد 14 جانفي، وأكثر من ذلك بعد 23 أكتوبر، حيث تبلور طرفا النزاع السياسي والحضاري بكل وضوح. ولكن السياسة لا تعدو أن تكون إلا «فن الممكن»، وإن وجب علينا إيلاء هذا الهدف ما يستحقه من اهتمام، فإنه يبدو صعب المنال، على الأقل في المدى القصير. ولعل الطريقة المثلى في نظري لانجاز مثل هذا الهدف هو التدرج والوصول اليه بتوخي سياسة المراحل، والمرحلة الأولى على هذه الطريق الصعبة، هي بالنسبة لنا كتجديديين، المحافظة على تحالف القطب والنجاح في إعادة هيكلته، حتى يستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة.

2) حول إعادة هيكلة القطب
هذا هو فعلا جوهر الموضوع، فالقطب كان تحالفا جمع أحزابا ومبادرات مواطنية ومستقلين، قصد خوض غمار الانتخابات وقد انتهت مهمته (ووجوده ككائن سياسي) بمجرد انقضاء الانتخابات. وإن استثنينا عمل نوابه الخمس الذين يمثلونه داخل المجلس التأسيسي، وهم بمثابة تواصل القطب في صيغته الأولى الى اليوم. فالواضح أننا عدنا الى صيغة تتشكل من المكونات الحزبية والجمعباتية ومستقلين في البحث عن هيكلة جديدة، وهذا الأمر يؤرق بصفة خاصة المستقلين الذين ساهموا في تكوين القطب وناضلوا في صفوفه ويريدون اليوم الانخراط فيه... كحزب.
وهنا تكمن المفارقة الثانية، وهي أنه رغم الفشل الانتخابي للقطب، فإن مكوناته ومنها حركة التجديد، مازالت متمسكة بهذا التحالف، ليس لأنه يمثل الخيار الاستراتيجي الصحيح فحسب، بل لأنه كذلك تمكن من خلق ديناميكية واعدة، وإن أتت متأخرة شيئا ما. وقد لمسنا كمناضلين على الميدان أن القيم التي حملها القطب والمواقف التي دافع عنها جلبت له تقدير المواطنين وتعاطفهم لما وصلتهم الرسالة دون تشويه، ولكن في نفس الوقت علينا أن نكون واعين تمام الوعي بأن الضعف التنظيمي والنقائص في الخطاب، وكذلك بعض الأخطاء في تكوين القائمات أدت الى اقتصار نجاح القطب على دوائر تونس الكبرى وفرنسا الشمالية، مقابل فشله وغيابه التام في باقي الدوائر.
وإن كانت هذه النتائج سيئة للقطب ككل، فإنها مؤلمة لحركة التجديد بالأساس التي فقدت اثر هذه الانتخابات بعدها الوطني وغٌيّبت في جهات لها فيها تواجد تاريخي، كمنطقة المناجم والساحل (المنستير خاصة) والوطن القبلي.
وهنا لا يجب علينا أن نتغافل عن مفارقة ثالثة وهي أن خطاب القطب كان نخبويا جلب له تعاطف نخب ثقافية واقتصادية جعلته يكتسي طابعا طبقيا في بعض تظاهراته، أي «برجوازيا» بالأساس، وهي ليست مع الأسف الطبقة التي تنحاز اليها حركة التجديد في أدبياتها. وهذه النقطة تكتسي في نظري أهمية قصوى، فإن صح أن انتخابات مجلس تأسيسي تطرح اشكاليات حضارية وقيمية وتنافس حول مشاريع مجتمعية تتجاوز التجاذب التقليدي بين يمين ويسار، الذي يظهر من خلال الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، فإن الانتخابات القادمة (رئاسية أو تشريعية أو بلدية كانت) تحتم على حركة التجديد والقطب أن يوضحا تموقعهما على صعيد الخيارات الاقتصادية والاجتماعية بما يتماشى مع هويتهما.

3) القطب والهوية اليسارية للتجديد
وتجرنا هذه النقطة الى الخوض في مشكل آخر يطرحه التفكير في إعادة هيكلة القطب، وهو مصير حركة التجديد حسب السيناريوات المتداولة.
فإن اتسمت الحركة تاريخيا بمرونتها وانفتاحها وقدرتها على تقديم المصلحة العامة على مصلحتها الحزبية الضيقة، وإن اتسم قادتها بوطنيتهم ونكران الذات، فإني أعتقد أن على من يطالب بانصهار كل مكونات القطب في حزب واحد أن يعي جيدا أن هذه العملية ليست بنفس السهولة عندما يتعلق الأمر بأحزاب حديثة العهد أو مبادرات عمرها بضعة أشهر، أو عندما تعني حركة سياسية تمتد جذورها الى عشرينات القرن الماضي.، فليس بالهين التخلص من ذاكرة نضالية أعطت مؤسسين لجامعة العمال التونسية مع محمد علي ومنفيين مع القادة الوطنيين في الجنوب التونسي ومناضلين عرفوا سجون دولة الاستقلال، ذاكرة تربط النضال الوطني بالنضال الاجتماعي. وهذا الهاجس لا ينم عن مجرد حنين الى الماضي وتعلق بتاريخ نضالي فحسب، بل يطرح بالأساس قضية مستقبل يسار غير ماركسي وغير ايديولوجي تمثله حركة التجديد اليوم على الخارطة السياسية التونسية.
نعم، حركة التجديد تجسد في نظري يسارا عصريا قادرا على التعاطي مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتعامل مع أهم القضايا التي تطرحها، بما يكفي من الذكاء ومن الخيال, قصد توخي قراءات جديدة والبحث عن حلول خارج القوالب الجامدة والاجابات الدغمائية التي لاتزال سائدة في جزء كبير من اليسار التونسي مع الأسف. هناك فعلا مخاطر كبيرة في تقديري في عملية انصهار حركة التجديد في صلب حزب وسطي توجهاته الاقتصادية والاجتماعية غير واضحة، وهذه مفارقة أخرى، فكأن الأمور تجري على الساحة السياسية التونسية نحو تغييب التوجه اليساري والحس الاجتماعي. في الوقت الذي طرحت فيه الثورة قضايا حيف اجتماعي وجهوي تستوجب حلولا اقتصادية واجتماعية، تنطلق أساسا من مبدإ العدالة الاجتماعية وتقر بمبدإ تدخل الدولة لتلافي النقائص التي يخلفها العمل بمنطق السوق الحرة والتنافسية.

4) حول سيناريو انصهار التجديد في القطب
قد يتبادر الى ذهن القارئ أني قد أطنبت في التركيز على سيناريو انصهار حركة التجديد في ما قد يصبح القطب2، في حين أن إعادة هيكلة القطب قد تتم حسب سيناريوات أخرى، ومنها مثلا شكل الجبهة التي تم الاتفاق عليها مؤقتا في الندوة الوطنية لمكونات القطب التي التأمت يومي السبت والأحد 3 و4 ديسمبر الماضي. إلا أن الأجواء العامة أثناء الندوة كانت توحي بأن عددا من مناضلي القطب،  يحبذون تحول القطب الى حزب وبصفة سريعة حتى يتمكنوا من الانخراط صلبه، ويبدو في تقدير بعضهم أن بقاء حركة التجديد كمكونة قائمة الذات، هو العقبة الرئيسية أمام تحقيق هذا الهدف (وبدا هذا جليا  مثلا من خلال الانزعاج والتذمر اللذين كانا يثيرهما لدى البعض مجرد النطق بكلمة «التجديد») وكأنهم يعبرون عن وعي أو عن غير وعي عن رغبتهم الجامحة في زوال هذا الطرف.
وبرز هذا التمشي بأكثر وضوح عند تلاوة السيد لطفي بن عيسى للسيناريو الذي يبدو أنه حظي بدعم قادة القطب والذي ربط هيكلة القطب بمؤتمر التجديد، موحيا بأن اليوم الأول سيخصص لحل التجديد، واليومين الثاني والثالث لتأسيس القطب.
ونأتي هنا الى المفارقة الأخيرة والأهم التي تطرحها اشكالية إعادة هيكلة القطب: هذا التحالف لم يكن ليرى النور لولا الارادة السياسية القوية لحركة التجديد التي نادت اليه ووضعت على ذمته خبرتها ومواردها البشرية والمادية، ولكن يبدو أن مواصلة مغامرة القطب تستوجب لدى البعض زوال حركة التجديد ككيان سياسي، على غرار أسطورة الابن الذي يجب أن يقتل أباه حتى يكبر. هذه هي الاشكالية الرئيسية المطروحة فعلا على مناضلي التجديد المتعلقين بتحالف القطب وبهوية حركتهم في نفس الوقت. إن مواصلة المشوار قد تضعنا عاجلا أم آجلا أمام حل حركة التجديد والتخلي عنها، هذا خيار صعب ومؤلم، وعلينا أن نتطرق اليه بكل جد وبحوار صريح في هياكلنا دون محرمات. فإن كان خيار بناء الحزب الديمقراطي الموحد يتطلب «التضحية» بحركة التجديد ككائن مستقل، فليكن هذا الخيار واعيا ومدروسا، وليس من قبيل المباغتة ولا من قبيل الأمر المقضي.
إن هذا النص لا يعطي أجوبة، بقدر ما يطرح تساؤلات ويعبر عن مخاوف، وهدفه اطلاق حوار في هياكلنا وعلى صفحات جريدتنا وكذلك بين أطراف الحركة الديمقراطية ببلادنا حول مستقبل حركة التجديد وخياراتها في اللحظة التاريخية الراهنة، فإلى أقلامكم!

بكار غريب