dimanche 5 septembre 2021

كتابات على الطريق لهشام سكيك: الثابت و المتغير

أصدر القيادي بالحزب الشيوعي التونسي ثم بحركة التجديد فالمسار الديمقراطي الاجتماعي، هشام سكيك، كتاباً بعنوان "كتابات على الطريق" يحتوي على مجموعة مقالات نشرها بالعربية بجريدة الطريق الجديد من 1981 سنة تأسيسها إلى 2014 سنة اختفائها. و إن كان من الطبيعي أن يقرأ المناضلون القدامى هذا الكتاب بشيء من الحنين إلى الماضي و بالاعتزاز بمواقف و نضالات حزبهم خاصة خلال الحقبة التسلطية، فإنه ينبغي أن نقرأه كذلك كوثيقة تاريخية هامة، لأن المقالات تروي بطريقتها أهم المحطات التاريخية و أهم الأزمات السياسية التي عاشتها البلاد على مر أربعة عقود أو ما يزيد، فنجد فيها مثلاً تحاليل و مواقف الكاتب (و حزبه) من أزمة 26 جانفي 1978 و أحداث قفصة و أحداث الخبز و7 نوفمبر و الميثاق الوطني و أحداث الحوض المنجمي إلى أن نأتي إلى الثورة وما تلاها من تطورات وأزمات. و القارئ يجد متعة في مطالعة هذه المقالات لأسلوب الكاتب المتسم بحصافة الرأي و الرصانة و العقلانية كما أبرز ذلك السيد الحبيب رمضان في مقدمته الجميلة و نضيف إلى هذه الخصال ميزة أخرى و هي دقة وعمق التحليل السياسي فيكون المقال  أحياناً محذراً من تطورات أو مستبقاً لما سيحدث فعلاً. فنجد مثلاً في مقال "الخبز و حقيقة الأسعار" بتاريخ 8 أكتوبر 1983 هذا التحذير الصريح : "بات من المتأكد ... أن نية الحكومة متجهة نحو الترفيع في أسعار المواد الأساسية، و خاصة منها الحبوب و مشتقاتها من خبز و عجين و سميد ... و نظراً لخطورة الموقف - و من موقع مسؤول - فإننا نحذر من إتخاذ مثل هذا الإجراء" (ص80). كما نجد في مقال كتب بعيد تعيين بن علي كوزير أول بتاريخ 17 أكتوبر 1987 هذا التحليل/التنبؤ : "أما الاحتمال الثالث فهو أن يحصل وعي بأن تدهور الأوضاع قد بلغ درجة أصبح بها يهدد كيان النظام نفسه و الحزب الدستوري بالخصوص و المجتمع عامة و أن المسؤوليات الجديدة ستمكن الوزير الأول من الخروج من حدوده الفنية و تتيح له الفرصة لمعالجة الأوضاع من زاوية أوسع من تلك التي مارسها حتى الآن فيتطرق إلى الأمور بصفة شمولية، لا كوزير للداخلية بل كوزير أول و أيضاً كمرشح للخلافة طبقاً لدستور البلاد..." (ص93). 


لكن الأهم من هذا في رأيي هو أن الكتاب يتيح لنا متابعة مواقف و تحاليل الحزب الذي انتمى إليه الكاتب و يمكن لمن واكب نشاط حركة التجديد منذ بداية الألفية أن يقارن بين فحوى مقالات هذه الفترة و فحوى مقالات فترة الثمانينات، أي لما كان الحزب شيوعياً، و أن يقف على التطورات إن وجدت. و المتمعن في المقالات سيكتشف أن هناك عدة مواقف ثابتة لم تتغير على مر السنين، فهي بمثابة الحمض النووي للحزب و لكنه سيرى كذلك أن أشياء تغيرت أو بالأحرى اختفت لما تخلى الحزب عن الشيوعية. فما الذي بقي على حاله و ما الذي تغير؟ هذا ما سنعدده فيما يلي.


الثابت 

من بين الثوابت نجد أولاً المساندة و الدعم القارين للاتحاد العام التونسي للشغل. فليس من الصدف أن يكون المقالان الأولان مخصصين للاتحاد. فالأول مستبشر باستعادة الحبيب عاشور لحقوقه السياسية و باستعادة القيادة الشرعية لهياكل المنظمة بعد المحنة العصيبة التي مر بها الاتحاد. و أما الثاني فيعود إلى الأسباب العميقة لأحداث 26 جانفي 1978 و يرجع فرض مطلب استقلالية المنظمة الشغيلة إلى خصائص القواعد الجديدة الشابة و المثقفة التي دخلت الاتحاد في السبعينات.


ثانياً، نجد النضال الدائم من أجل الديمقراطية و الحريات العامة الذي يحظى بعدة مقالات خلال الفترتين.


ثالثاً، البراغماتية و السياسة كفن الممكن. و من هنا الإصرار على استغلال أي هامش يتركه النظام التسلطي للتحرك، كالمشاركة في الانتخابات حتى و إن أدى هذا إلى خيبة أمل و إلى التنديد بالتجاوزات (و ما أكثرها) و هو ما يستوجب في كل مرة مواجهة دعاة المقاطعة و الدفاع عن جدوى المشاركة رغم كل شيء.


رابعاً، قضية الجهات الداخلية و مساندة مطالبها المشروعة. إذ يعود سكيك في جانفي 1985 إلى أحداث قفصة داعياً إلى ضرورة طي الصفحة الأليمة و مذكراً بأن غضب مواطني تلك الجهة هو غضب مشروع. كما عبر بمناسبة نضالات الحوض المنجمي في 2008 عن انشغاله إزاء ما يحدث في المناجم و دعا في مقاله إلى "هبة وطنية لإنقاذ الجهات و الفئات المحرومة".


خامساً، الاحتراز من الإسلام السياسي. و يستند هذا الاحتراز إلى فكرتين أساسيتين عبر عنهما في حوار حول "التراث و العمل السياسي" في جانفي 1983. الأولى تعتبر "أن الإسلام كعقيدة و حضارة يكتسي صبغة شمولية تشمل المجتمع بأسره بما فيه الشيوعيين، أما العمل السياسي فهو بالضرورة تعبير عن مصالح طبقية معينة بحيث أن محاولة التوفيق بين شمولية الإسلام و طبقية العمل السياسي قد تضر بهذا أو بذاك أو بالإثنين معاً" (ص67)، و الثانية تحذر من "مخاطر تعويض الحجة العقلية بحجة من نوع سلطوي كالحجة المقدسة الدينية" (ص67). أما في فيفري 2004, فيرد سكيك على كلمة نجيب الشابي حول "ضرورة التحاور مع الحركة الإسلامية" متسائلاً عن إمكانية اعتبار هذه الأخيرة جزءًا من الحركة الديمقراطية و التقدمية و مذكراً بضرورة تفادي اختزال الديمقراطية في جانبها الإجرائي (ص150).


سادساً وأخيراً، هاجس العمل المشترك و التحالفات مع بقية القوى التقدمية : بيد أن هذا الأمر لم يكن بديهياً كما نستشف ذلك من مقال  بعنوان "نحن لا نطرح على اليسار أن يذوب داخل الحزب الشيوعي" صدر في جانفي 1983, بعد محاولة إفساد لقاء خلال مهرجان الطريق الجديد، و الذي يتوجه فيه سكيك إلى اليسار بهذا الخطاب : "نحن نعتبر أن اليسار يمكن أن يقوم بدور إلى جانب الحزب الشيوعي و بعمل مشترك معه ضمن أنواع من تحالفات أو تحركات : ظرفية، طويلة المدى، متوسطة المدى ... و على الأقل أضعف الإيمان الذي نطلبه منكم إن كنتم حقيقة تقدميين ألا تكونوا أعداء للحزب الشيوعي الذي يقوم بمهام لنا و لكم، لليسار بصفة عامة (...) فليس من مهام اليسار أن يضرب أعمالنا و يعرقلها و يفشلها، اتركوا هذه المهام لليمين، ليست هذه مهامكم" (ص56).


هذه إذن التحاليل و المواقف الثابتة في الفترتين. فما الذي تغير؟


المتغير  

عندما نقارن مقالات الثمانينات بما كتب سكيك بعد ذلك خاصة منذ بداية الألفية الجديدة، نلاحظ أن في هذه الفترة تختفي المفاهيم و أدوات التحليل الماركسية و تختفي كذلك النظرة الطبقية للأمور، كما نلاحظ تراجعاً للمسألة الاجتماعية لصالح المسألة الديمقراطية و الحريات و أكثر اعتدالاً في ما يخص المواقف من القضايا الدولية و غياباً للمشاغل الفكرية و النظرية. 


فعلاً، إننا نجد في مقالات الثمانينات استعمالاً لمفاهيم وأدوات تحليل ماركسية غابت في الفترة الموالية. ففي المقال المخصص لأحداث 26 جانفي يفسير سكيك الصدام بين الاتحاد و الحكومة بانتهاج هذه الأخيرة "سياسة رأسمالية" (ص29)، كما ينتقد ايديولوجية الميثاق الوطني لأنها "لا ترفض النمط الرأسمالي بل تسعى إلى تهذيبه و الحد من شروره" (ص110). 


و من ناحية أخرى فإن سكيك الثمانينات يلجأ إلى القراءة الطبقية للمجتمع التونسي و له نظرة طبقية للأمور. فهو صاحب مقال هام جداً نشر في فيفري 1983 تحت عنوان "حول البرجوازية الصغيرة و دورها" يتساءل من خلاله عن الدور الذي ستلعبه هذه الشريحة التي قادت الحركة الوطنية و فازت بالحكم  في ظل بروز "برجوازية جديدة" في السبعينات كنتيجة مباشرة لسياسة الهادي نويرة.


كما نلاحظ أن مقالات الثمانينات مهتمة أكثر بالمسألة الاجتماعية في حين أن مقالات الألفية الجديدة و خاصة منها التي صدرت بعد الثورة أكثر اهتماماً بالديمقراطية و الحريات و ربما مرد ذلك هو الظرف السياسي و المشاكل التي رافقت حكمة النهضة، إذ تعددت المقالات المخصصة لظاهرتي الإرهاب و السلفية و المنادية بضرورة الدفاع عن المثقفين و الفنانين. 


و الملفت للانتباه أن مواقف سكيك الشيوعي في علاقة بالقضايا الدولية كانت أكثر راديكالية من مواقف سكيك الألفية الجديدة. إذ يكتب في مقال يدرس فيه تداعيات زيارة مزالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 24 جويلية 1982 : "إننا لا نلوم الحكومة التونسية على قيامها بمساع، أي مساع، بقدر ما نلومها على مثابرتها على اعتبار أمريكا صديقة لتونس، و كأن ما حصل من مواقف أمريكية و مبادرات أمريكية مجرد هفوات يمكن تلافيها بالاتصالات و الزيارات. إن ما يتطلبه الوضع اليوم، إن ما يطالب به الشعب التونسي و الشعوب العربية، إن ما يتطلبه المنطق السليم اليوم هو أن نأخذ الأمور على ما هي و نعتبر الواقع الحقيقي الذي تجلى بكل وضوح لدى الجميع : وهو أن أمريكا عدوة الفلسطينيين، عدوة العرب، عدوة الشعوب و أن التعامل الوحيد الذي يجدر بها هو : قطع العلاقات معها فوراً و تجميد كل الاتفاقيات التي أبرمت معها" ص47).


و أخيراً و ليس آخراً، إن مقالات الثمانينات كانت تولي أكثر اهتماماً بالقضايا الفكرية و النظرية. إذ يؤكد سكيك في مقاله حول الحزب الشيوعي و اليسار : "أن الطريق الجديد مفتوحة للحوارات النظرية مع اليسار بما فيها المناقشات حول الماركسية" (ص57)، كما يدعو في نفس المقال إلى : "إعادة بناء يسار ينطلق من المشاكل الحقيقية للشعب التونسي، من المشاكل المطروحة على شبابنا" (ص55).


ما أجمل هذا الطرح! و لكن ... هل شرعنا في هذا البناء بعد أكثر من أربعة عقود من تحرير هذا المقال؟ لا أظن. و هل يمكن الشروع في الإنجاز اليوم، بعد أن تراجع الهاجس الفكري و الطموح النظري لدى الأحزاب اليسارية؟ لا أظن. إلا إذا عاد الشباب التقدمي إلى الاهتمام بالقضايا الفكرية و المسائل النظرية و نجح في استخلاص العبر من المسيرة النضالية لمن سبقه. و لا شك أن دراسة مثل هذه المؤلفات لها فائدة كبرى بالنسبة للجيل الجديد علاوة على أهميتها كوثيقة تاريخية.


بكار غريب 

samedi 4 septembre 2021

هشام جعيط و السيرة النبوية : صرامة المنهج التاريخي أمام المعتقد (3/3)


التاريخ و الماورائي 

 

لاشك و أن صعوبات جمة ستعترض المؤرخ ما أن حاول التطرق إلى القضية الجوهرية في السيرة النبوية : قضية الوحي. و إن قام جعيط في الجزء الأول ببحث هام حول ماهية الوحي و لحظة التجلي استنادا إلى سورتي النجم و التكوير، فإنه أعلن منذ البداية أنه لا يمكن للعلم بل للعقل الإنساني فهم هذه التجربة الفريدة التي عاشها النبي،: "الوحي هو العملية التي تم بها التبليغ إلى الرسول و التجربة الفريدة التي عاشها و ليس همنا أن نستنكه هذا بالعقل فهو أمر مستحيل" (I,18). وهو يعود مرة أخرى، في الباب السابع المخصص "لقوة النبي"، إلى هذا الموضوع مؤكدًا محدودية علومنا أمام هذه الظاهرة  : "التجلي و الوحي يبقيان الصيغة الحاسمة التي تتجاوز العقل، وبالتالي لا يمكن تفسير ذلك بمعارفنا البسيطة المحدودة" (I,93). هناك إذن إقرار بوجود عالم آخر غير عالمنا، فيلعب النبي دور الوسيط بينهما : "فالنبي وسيط بين العالم الأرضي الإنساني و بين العالم الآخر، عالم الروح و الإله ذاته" (I,93).


و هنا يظهر أول إشكال منهجي : ما هو المقام الذي يجب أن يعطيه المؤرخ لظاهرة الوحي ؟ هل يمكن اعتباره حدثًا تاريخيًا ) وهو كذلك( أم أكثر من مجرد حدث تاريخي ؟ و يعتبر جعيط أن الوحي فعلًا أكثر من ذلك : "التجليات هي أكثر من أن نعتبرها أحداثًا تاريخية، فهي في التاريخ لكنها ترمز إلى ما وراء التاريخ و ما وراء العالم سواءً إلى الكائن الإله المشخص أو المطلق اللا مشخص" (I,27). و الأمر يزداد تعقيدًا عندما سيطرح جعيط ثنائية الحقيقة و الواقع : "فظاهرة الوحي … هي كشف للحق المطلق" (I,98). وهو ما يجعل النبي في منزلة : "ما بين الحقيقة و الواقع" (I,104) أي بين التاريخ و ما وراء التاريخ. و ليس من المفاجئ أن  يعتبر جعيط أن : "الحقيقة تسمو على الواقع" (I,104) و المعتقد على التاريخ. و استنادًا إلى كل هذه الأفكار فإن جعيط يحدد مقام الوحي بالنسبة له : "الوحي ظاهرة تاريخية واقعية من وجهة التاريخ والأنثروبولوجيا. إلا أنه يصبو إلى ربط العلاقة مع المطلق و الحقيقة المطلقة و هذا ما يخرجه عن التاريخية العادية المحدودة النظر" (I,97).


ولا شك أن بتناوله ظاهرة الوحي بهذه الطريقة يخرج جعيط عن التمشي المعتاد عند المؤرخين. وهو واعي بذلك : "يبقى أن الوحي ظاهرة دينية فحسب معطاة من التاريخ، و العقلانيون لا يؤمنون بواقعيتها الفعلية : هذا شأن المؤمن ليس شأن العالم و الفيلسوف" (I,105). فهل كان جعيط المؤرخ مستنبط المنهج العقلاني - التفهمي مؤمناً بواقعية الوحي الفعلية؟ هذا ما توحي به بعض التحاليل. و هذا الأمر يتجاوز مسألة "صدقية الرسول" التي طرحها المستشرقون و التي لطالما أزعجت جعيط، منذ "أوروبا و الإسلام"، لأنها لم تطرح في علاقة بعيسى ولا بموسى. و يتبع جعيط في هذا الإطار النهج الذي انتهجه المفكر الألماني الكبير "ماكس فيبر" في توصيف هذه التجربة فيرى أننا مع الوحي و التجلي ندخل في واقع لا إنساني و حقيقة تفوق الإنسانية و لذا يكون من الأرجح أن محمداً من أصحاب الرؤى" (I,57) و "فيبر" يعتبر أن علينا أن نصدق ما يقوله الأنبياء عن تجاربهم وهذا ما يتبناه جعيط. لكنه لا يتبع "فيبر" إلى الآخر لأن هذا الأخير "كوضعي عقلاني حديث و حتى كاجتماعي تفهمي، اعتبر أن سلوكات الأنبياء هي من النمط المرضي" (I,75). فجعيط يرى أن عند التجلي و الوحي الأنبياء يعطون عقولهم دون أن يفقدوها و يقتربون من الجنون دون أن يقعوا فيه .(I,98) 


إن كل ما بلوره جعيط من تحاليل و أفكار حول ظاهرة الوحي هو نتيجة لتطبيق المنهج العقلاني التفهمي الذي سعى لاستنباطه و هو الذي يتجاوز المنهج العقلاني الوضعي القديم و يتطرق إلى موضوعه بقسط كبير من التفهم والتعاطف، على غرار ما فعله "فيبر" محللاً تجارب الأنبياء و ما أوصى به من ضرورة تصديق ما يقولون عنها. لكن يبدو أن جعيط يذهب إلى أبعد من هذا فكأنه يقر بوجود ما وراء العالم حيث الآلهة و الأرواح و أن هذا العالم محتضن للحق المطلق، على عكس عالمنا الدنيوي حيث الواقع و الحقائق النسبية... 

ولا يقف جعيط عند هذا الحد، إذ نجد في الجزأ الأول وحتى الثاني تحاليل لم نتعود عليها عند المؤرخين كالتي تتحدث عن تدخل للإله في التاريخ البشري. فهو يلاحظ مثلاً بكل أسف أن "العقلانيين الأكثر تفهماً في أوروبا العصر الحديث ضخموا من دور مؤسسي الأديان لأنهم اعتبروهم مبدعي هذه الأديان ... لكن الذي حدث في كل هذا هو إقصاء الله" (I,105)! و هذا ما لا يفعله المؤرخ هشام جعيط، إذ يرى "أن النبي كان قبل البعثة يبحث في اتجاهات عدة عن الحقيقة، و أن الله هداه إليها، لكن القرآن فرض عليه بغتة" (I,100). كما نجد في الجزء الثاني، التاريخي البحت كما قدمه جعيط، أثراً لفكرة تدخل إلهي في التاريخ البشري، ولو بأقل حدة و بصفة غير مباشرة. إذ يكتب جعيط : "إن تعلم (النبي) و درسه و تدريبه إنما كان بإلهام من الله و تحت رعايته"، لكنه سرعان ما يضيف "هذا ما اقتنع به الرسول بكامل القناعة و الجدية" (II,155). و من هذا المنطلق لا يمكن أن يفاجئنا تأكيد جعيط على أن القرآن "هو الأثر الإلهي الذي انطبع في الصيرورة الإنسانية" I,22))


هل يمكن اعتبار أننا هنا أمام اختلال للتوازن بين العقلانية و التفهم لصالح هذا الأخير؟ أم أنه يجب علينا فصل الجزء الأول عن الجزء الثاني و اعتبار أن بعد تقديم مسألة الوحي و النبوة كما يجب أن يطرحها المفكر المسلم اليوم راح جعيط إلى عمله كمؤرخ صارم في الجزء الثاني ؟

 

الخاتمة 

 

وقفنا فيما سبق على خصائص المنهج التاريخي الذي انتهجه هشام جعيط في استقراء تاريخ الرسول. و مهما كانت المؤاخذات حول ما سماه منهجه العقلاني التفهمي، خاصةً عند تطرقه إلى مسائل في علاقة بالماورائي كالتجلي و الوحي، حيث هناك إقرار بتدخل للماورائي في التاريخ الإنساني، أو تقديم ثنائية الواقع (التاريخي) و الحقيقة المطلقة (الماورائية)، فإن إسهام جعيط في استكشاف نشأة الإسلام و استقراء السيرة النبوية إسهام عظيم. إذ يهدينا في ثلاثيته رؤية جديدة و جريئة لتاريخ الرسول فند من خلالها بكل شجاعة ما علق به من أساطير و خرافة و اختلاقات كتبت أكثر من قرن بعد الأحداث و سعت بطريقتها إلى حبك رواية معقولة و ملئ الفراغات (خاصةً فيما يخص حياة الرسول قبل البعثة) مع تعظيم لشخصية الرسول، وهو أمر طبيعي في كل الديانات يتنامى مع مرور الزمن، و أعطانا سيرة نبوية جديدة لا شك و أنها أقرب إلى الحقيقة التاريخية مما توارثناه منذ قرون.


و الإنجاز عظيم كذلك لأنه "عمل عمر". فهو نتيجة لقراءة نقدية قام بها عبر عقود لكتابات المستشرقين القدامى منهم والجدد و للمصادر القديمة من تاريخ و أخبار و أنساب و غزوات و كذلك لمعرفة عميقة و دقيقة للقرآن غذتها أعمال المستشرقين الذين أعادوا ترتيبه مثل نولدكه في القرن التاسع عشر و بلاشير في القرن العشرين. و هنا تكمن أهمية إسهامه. فجعيط ليس المؤرخ الأول الذي يرفض قصة الغار أو يفند فكرة أمية الرسول أو يبرز تأثيرات المسيحية السورية على القرآن، لكنه بفضل قراءته النقدية للمستشرقين و للمصادر القديمة و اعتماده على القرآن كمصدر رئيسي، توصل إلى كتابة تاريخ لمحمد يحمل بصمته الخاصة.


ولا شك أن ما حث جعيط على إنجاز هذا المشروع العظيم هو ما أخطأه الاستشراق القديم في حق الرسول و المنحى غير العلمي الذي تورط فيه الاستشراق الجديد. فأما بالنسبة للأول و بالرغم من أنه يعد علماء كبار و جديين يشيد بهم جعيط مثل فلهاوزن و قولدزيهر و شخت و نولدكه فإن بحوثه حملت : "قسطًا غير قليل من الأحكام المسبقة حول شخصية (الرسول) و أخلاقيته و حول مدى صدقه في ادعاء النبوة، و كل هذا ليس من العلم في شيء" (II,10). و أما بالنسبة للثاني فنقد جعيط أكثر قسوة. فهو يعتبر أن أتباعه ينتجون علمًا "من دون تثبت و لا مسؤولية و لا حذر" (II,13) و أنهم "اعتبروا أن كبار العلماء في الميدان قد خبا ذكرهم و درجوا فيمكن عندئذ البوح بأي فكرة من دون رقابة الرابطة العلمية العالمية "(II,14). و لا شك أن جعيط يضع في هذه الخانة ما ذهب إليه الاستشراق الجديد من اعتبار "أن النص القرآني … حرر في القرن الثاني ه / الثامن م و أنه أعيدت صياغته في الفترة العباسية" (II,24). و يرى جعيط أن "هذا الزعم مطبوع بالغلو في نقد النصوص و لا يصمد أمام الفحص لأسباب عديدة لا تحصى…" (II,24).


و هكذا يظهر أن رد جعيط على الاستشراق فيما يخص نشأة الإسلام هو من قبيل ممارسة الرقابة العلمية على الأعمال غير الجدية للاستشراق الجديد و من قبيل الرد على الأفكار المسبقة الجارحة التي يحملها الاستشراق القديم. و في كلتا الحالتين فإن جعيط يحمل وجهة نظر المفكر المسلم إزاء هذه الأعمال و الواعي بأن الاستشراق هو في نهاية الأمر "من إفرازات الشعور البروميثي الأوروبي" (II,8). وقد اقتنع بأن أفضل رد على الفريقين هو كتابة تاريخ محمد حسب المعايير العلمية الحديثة، إذ "لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب و المسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميًا. و هكذا قد آن الأوان لنسهم بدورنا في الميدان من وجهة علمية صارمة و في موضوع يهمنا قبل غيرنا" (II,9). ورغم كل الاحترازات التي يمكن أن  يثيرها مثل هذا العمل الجريء، فإن جعيط قد رفع التحدي باقتدار، فبعد هذه الثلاثية لن ننظر كعرب و مسلمين إلى تاريخنا بنفس الطريقة. فلنقرأ إذن هذا الأثر فجعيط لم يكتبه للمختصين بقدر ما كتبه لعموم المسلمين وهو يستجيب أكثر من السير القديمة إلى متطلبات العقل المعاصر ولأن "أخشى ما يخشاه الباحث هو اللامبالاة …" (II,15).

 بكار غريب  

هشام جعيط و السيرة النبوية: صرامة المنهج التاريخي أمام المعتقد (2/3)


جعيط مؤرخاً صارماً : حول أمية الرسول و تأثيرات المسيحية السورية على القرآن 

قلنا في البداية أن مشروع جعيط في كتابة السيرة النبوية يعتمد على قراءة نقدية لأعمال المستشرقين الجديين التي تطرقت بصفة أو بأخرى لنشأة الإسلام. و كذلك الشأن بالنسبة للمصادر القديمة التي و إن نجحت في كتابة تاريخ متماسك لحياة الرسول فإن مصداقيتها ضعيفة : "و نحن لا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد (...) لأن القاعدة هي أن كل ما دون بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرخ" II,94)). و يستند جعيط إلى القرآن الذي، على العكس، يتسم بمعاصرته للأحداث و تم الحفاظ عليه من التحريف. إذ يرى الكاتب أن "الرسول سهر في آخر حياته على تنظيمه وهيكلته ومراقبة محتواه، بل إن النص سجله هو كتابياً من الأصل في مكة ذاتها" (II,22). كما يعتبر أن إقحام كلمات أو عبارات لم يبح بها النبي أو إسقاط لعبارات أخرى "محتمل في حالات قليلة" (II,22).


نستنتج مما سبق أن جعيط يرفض أحد أعمدة السيرة النبوية ألا وهي فكرة "أمية الرسول"، أي جهله المزعوم للقراءة و الكتابة، كما يرفض إحدى أهم تمظهراتها : قصة الغار التي لا أثر لها في القرآن (II,35). و بالنسبة لجعيط المسألة واضحة و"لا تحتاج إلى جدال طويل : النبي الأمي يعني النبي المبعوث من غير بني إسرائيل" (I,43). و يضيف جعيط "أن من الواضح عندي أن شخصاً مثل محمد، في الزمن و الوسط الذي عاش فيه، كان يحسن القراءة و الكتابة و أنه كان يتمتع بأوصاف النبوغ و العبقرية و الحافظة و الذكاء الوقاد" (I,45) كما ينبغي أن يكون الأمر لمبدع دين كبير. وهذا الموقف بتدعم في الجزء الثاني عندما يؤكد جعيط أن محمدًا "كان علامة في مجال الكتابات اللاهوتية" (II,175).


وهنا نأتي إلى الإسهام الخطير الثاني و هو التأكيد على التأثير الكبير للمسيحية السورية على القرآن بصفة عامة و تأثير كتابات افراييم على توصيف نهاية العالم و يوم القيامة بصفة خاصةفالتشابه هنا كبير و يذهب حتى إلى الجزئياتوأمام هذه النصوص المتقاربة في الزمن و المكان : "نصوص من الكنيسة السورية بالسريانية و اليونانية، و النص القرآني، فإن المؤرخ الذي يبقى على مستوى النصوص و الزمن التاريخي، التاثيرات أمر مقبول و هنا تكون في اتجاه سوريا - مكة و يصعب ألا تكون معرفة كتابية عن كثب" (II,174).


و في خصوص هذه النقطة بالذات أي اطلاع محمد عن كثب على نصوص المسيحية السورية باللغة السريانية، إن كانت وعظات افراييم أو قصص مريم و الطفل المسيح أو الأناجيل المنحولة، فإن جعيط يذهب في استنتاجاته أبعد مما ذهب إليه المستشرقون بصفة عامة و المستشرق السكاندينافي "تور اندري" بصفة خاصة الذي اكتشف التشابه بين القرآن و كتابات افراييم فاعتبر أن "لا بد و أن محمدًا قد سمع في الأسواق بعض الرهبان يحكون عن هذه الكتابات (II,12). و هذا ما يرفضه جعيط بشدة إذ يلاحظ أن "تور اندري يبقى أسيرًا لفكرة أن محمدًا لم يكن بعرف مباشرة النصوص السورية و هي فكرة غلبت على المباحث الاستشراقية، إما لأنهم يعتقدون بأمية الرسول بالرغم من أنهم أناس متحررون من الانتماء الإسلامي أو لأنهم بقوا أسارى نظرة دونية لمعرفة الرسول و إلى استعداداته للرؤيا و الكشف من جهة أخرىفيجب في رأيهم أن يبقى عربيًا بسيطًا سمع بالسماع آراء رائجة في الأسواق و لم يهضم تمامآ التقليد اليهودي-المسيحي، فيخطئ في عرضه لهذا التقليد" (II,12). و هكذا فإن تور اندري لا يجرؤ على المضي قدمًا في برهنته لأنه لا يمكن للنبي (في رأيهأن يكون عالمًا بالمسيحية" (II,12).


و الملفت للانتباه أن جعيط لا يتبنى المخرج الذي ذهب إليه اندري و الذي يمكن أن يفسر التشابه "في الفكر … في التعابير و الصور و الاستعارات" (II,168)  بين القرآن و عظات افراييم بما يتماشى مع فرضية أمية النبي أو على الأقل عدم اطلاعه على هذه الكتابات. إذ يرى اندري أن "هذه الرؤى و بنى التقوى الممزوجة بالخشية لدى افراييم و في القرآن إنما هي نماذج دينية مقولبة، كليشيهات معبرة عن منهاج الذهنية السامية آنذاك، فينكر أي نقل مباشر من القرآن عن افراييم" (II,168). و يرفض جعيط هذا التحليل المغري، إذ يعتبر أن "ذهنية عرب الحجاز ليست ذهنية أهل الشام و لا الحيرة و لا الغساسنة" (II,168المسيحيين.


يتمسك جعيط إذن على عكس المستشرقين بفكرة عبقرية محمد و بكونه كان علامة في اللاهوت المسيحي بل و يتعمق في هذا النهج إذ يعتبر أن الرسول قد اطلع على الكتابات المسيحية و أنه "لم يدرس فقط … بل تفكر و تأمل" (II,156). و في خصوص هذه النقطة بالذات يؤكد جعيط على الأهمية التي يكتسبها تعاطي محمد للتجارة إذ "أن القرآن مفعم بمعرفة دقيقة للتراث المسيحي و للتراث اليهودي" (II,150و أن مثل هذه المعرفة تستوجب رحلات إلى اليمن و إلى سوريا بل و إقامات طويلة بهما و خاصةً بسوريا


كما أن جعيط يولي اهتمامًا كبيرًا للفترة السابقة للرحلات التجارية و التي عاشها الرسول بمكة معتبرًا أنه ابتدأ التأمل و التفكير في القضايا الميتافيزيقية منذ ذلك الوقت و لا بد أنه تأثر بحوارات و نقاشات في هذا الموضوع. ف"من الواضح أن شابًا قرشيا مهما كانت عبقريته و حساسيته و ميله للتأمل الديني لا يمكن أن يتجه إلى البحث اللاهوتي في الشام و عبر لغات أجنبية مثل السريانية و اليونانية من دون تهيئة مسبقة في بلده أو تأثير تأثر به لكي يتولد لديه مثل هذا الاهتمام" (II,152). إذن وقع تأثير في مكة و جعيط ليس مقتنعًا برواية السيرة التي تحدثت عن من سمتهم "حنفاء" و هم أناس غير راضين بدين العرب يبحثون عن إجابات أخرى على حيرتهم الدينية. وهو يعتبر أن هؤلاء كانوا مسيحيين بكل بساطة و أن القرآن نفسه يؤكد هذا التأثير لما يرد على اتهامات قريش التي تقول أن محمدًا معلم من طرف أعجمي : "إن القرآن لا ينفي هنا لا الاتصال بهذا الشخص و لا بنهل المعرفة منه و يكتفي بالإجابة على أن القرآن لا يمكن أن يكون أملاه هذا الرجل في شكله الموجودإنما من الواضح أن النبي كان يعرف هذه اللغة الاعجمية (السريانية؟)" (II,154).


و بالعودة إلى تأثير المسيحية على القرآن، فإن جعيط يعتبر أنها تتجاوز التشابهات مع كتابات افراييم التي تفطن إليها تور اندريفهناك كذلك تأثيرات هامة للأناجيل المنحولة على ما يقصه القرآن حول مريم و حول المسيح، و الأهم من هذا ربما هو أن المسيحية وراء بعد الزهد في الإسلام  ف"النبي زاهد إذن و متأمل … وهو مكتسب لمثل ديني رفيع جدًا و صارم جدأ" (II,173وهو بدون شك مثل الرهبان المسيحيين.


و تأثير المسيحية السورية على القرآن هو من أهم استنتاجات جعيط في استقراءه العلمي للسيرة النبوية. فهو يذكرنا بأن المسيحية كانت تزن بوزنها على شبه الجزيرة العربية التي ربما كانت لتصبح مسيحية لولا سبقتها الدعوة المحمدية لتوحد العرب تحت دين توحيدي جديدو يعتبر جعيط أن بروز نبوة محمد لا يمكن أن يفهم خارج تأثير المسيحية إذ "كبار المصلحين و المبدعين في الدين و الفكر يظهرون في غفلة من التاريخ … لكن باتصال ولو قليل في ميدانهممن دون هيكلة الهندوسية في زمانه لم يكن ليظهر البوذا و من دون المسيحية الشرقية السورية لم يكن ليظهر محمد و إلا فلا نرى كمؤرخين حلًا للإشكال" (II,164).


لنستعد إذن أهم نتائج بحث جعيط وهو ملتزم بالمنهج التاريخي الصارم، أي عندما يضع الدين  في مجرى التاريخ و يحاول أن يفهم الدعوة المحمدية استنادا إلى ما يجري على سطح الأرض و يبحث في التاثيرات : محمد لم يكن أميًا بل كان يحسن القراءة و الكتابة وكان عبقريًا و كبعض أبناء وسطه و زمنه لم يكن راضيًا بدين الأجداد و كان يبحث عن إجابات أسمى  لحيرته الدينيةو هنا نأتي إلى مسألة الحضور المسيحي في الجزيرة العربية و اليمن و الشامإذ لا شك أن محمدًا عرف مسيحيين في مكة وناقشهم، لكن الأهم من ذلك هو تعاطيه للتجارة بعد زواجه و سفراته إلى اليمن و الشام حيث اطلع على كتابات افراييم و الأناجيل المنحولة بل و درسها و تأمل فيها حتى أصبح علامة في اللاهوت المسيحي، على عكس ما يعتقده كبار المستشرقينوهنا نصل إلى السؤال الخطير : إذا دحضنا فكرة أمية الرسول بل أكدنا على ذكائه و إلمامه بلاهوت المسيحية السورية، فما القرآن إذن؟ و من جهة تاريخية بحتة تأتي إجابة جعيط واضحة : "إن كل ما اختزنه محمد في ذاكرته سيرجع عن طريق الوحي، في حالة الإيحاء الداخلي، عن طريق الصوت الداخلي الملهم في فترات الانخطاف و الذي اعتبره محمد بكل حماس وحيا إلهيا من الخارج" (II,154).


هذه إذن أهم النتائج التي يصل إليها جعيط لما يلتزم بالمنهج التاريخي الصارملكن في الجزء الأول من الكتاب، خاصةً عندما ينكب على تحليل ماهية الوحي و القرآن، نلاحظ أنه لم يلتزم بالمنهج التاريخي الصارم، إذ قام بإشارات إلى الماورائي و تدخله في التاريخ الذي يجري على سطح الأرض و إلى عدم قدرة العلم بل العقل الإنساني على إدراك مثل هذه المسائل.


(يتبع)


بكار غريب