samedi 4 septembre 2021

هشام جعيط و السيرة النبوية: صرامة المنهج التاريخي أمام المعتقد (2/3)


جعيط مؤرخاً صارماً : حول أمية الرسول و تأثيرات المسيحية السورية على القرآن 

قلنا في البداية أن مشروع جعيط في كتابة السيرة النبوية يعتمد على قراءة نقدية لأعمال المستشرقين الجديين التي تطرقت بصفة أو بأخرى لنشأة الإسلام. و كذلك الشأن بالنسبة للمصادر القديمة التي و إن نجحت في كتابة تاريخ متماسك لحياة الرسول فإن مصداقيتها ضعيفة : "و نحن لا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد (...) لأن القاعدة هي أن كل ما دون بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرخ" II,94)). و يستند جعيط إلى القرآن الذي، على العكس، يتسم بمعاصرته للأحداث و تم الحفاظ عليه من التحريف. إذ يرى الكاتب أن "الرسول سهر في آخر حياته على تنظيمه وهيكلته ومراقبة محتواه، بل إن النص سجله هو كتابياً من الأصل في مكة ذاتها" (II,22). كما يعتبر أن إقحام كلمات أو عبارات لم يبح بها النبي أو إسقاط لعبارات أخرى "محتمل في حالات قليلة" (II,22).


نستنتج مما سبق أن جعيط يرفض أحد أعمدة السيرة النبوية ألا وهي فكرة "أمية الرسول"، أي جهله المزعوم للقراءة و الكتابة، كما يرفض إحدى أهم تمظهراتها : قصة الغار التي لا أثر لها في القرآن (II,35). و بالنسبة لجعيط المسألة واضحة و"لا تحتاج إلى جدال طويل : النبي الأمي يعني النبي المبعوث من غير بني إسرائيل" (I,43). و يضيف جعيط "أن من الواضح عندي أن شخصاً مثل محمد، في الزمن و الوسط الذي عاش فيه، كان يحسن القراءة و الكتابة و أنه كان يتمتع بأوصاف النبوغ و العبقرية و الحافظة و الذكاء الوقاد" (I,45) كما ينبغي أن يكون الأمر لمبدع دين كبير. وهذا الموقف بتدعم في الجزء الثاني عندما يؤكد جعيط أن محمدًا "كان علامة في مجال الكتابات اللاهوتية" (II,175).


وهنا نأتي إلى الإسهام الخطير الثاني و هو التأكيد على التأثير الكبير للمسيحية السورية على القرآن بصفة عامة و تأثير كتابات افراييم على توصيف نهاية العالم و يوم القيامة بصفة خاصةفالتشابه هنا كبير و يذهب حتى إلى الجزئياتوأمام هذه النصوص المتقاربة في الزمن و المكان : "نصوص من الكنيسة السورية بالسريانية و اليونانية، و النص القرآني، فإن المؤرخ الذي يبقى على مستوى النصوص و الزمن التاريخي، التاثيرات أمر مقبول و هنا تكون في اتجاه سوريا - مكة و يصعب ألا تكون معرفة كتابية عن كثب" (II,174).


و في خصوص هذه النقطة بالذات أي اطلاع محمد عن كثب على نصوص المسيحية السورية باللغة السريانية، إن كانت وعظات افراييم أو قصص مريم و الطفل المسيح أو الأناجيل المنحولة، فإن جعيط يذهب في استنتاجاته أبعد مما ذهب إليه المستشرقون بصفة عامة و المستشرق السكاندينافي "تور اندري" بصفة خاصة الذي اكتشف التشابه بين القرآن و كتابات افراييم فاعتبر أن "لا بد و أن محمدًا قد سمع في الأسواق بعض الرهبان يحكون عن هذه الكتابات (II,12). و هذا ما يرفضه جعيط بشدة إذ يلاحظ أن "تور اندري يبقى أسيرًا لفكرة أن محمدًا لم يكن بعرف مباشرة النصوص السورية و هي فكرة غلبت على المباحث الاستشراقية، إما لأنهم يعتقدون بأمية الرسول بالرغم من أنهم أناس متحررون من الانتماء الإسلامي أو لأنهم بقوا أسارى نظرة دونية لمعرفة الرسول و إلى استعداداته للرؤيا و الكشف من جهة أخرىفيجب في رأيهم أن يبقى عربيًا بسيطًا سمع بالسماع آراء رائجة في الأسواق و لم يهضم تمامآ التقليد اليهودي-المسيحي، فيخطئ في عرضه لهذا التقليد" (II,12). و هكذا فإن تور اندري لا يجرؤ على المضي قدمًا في برهنته لأنه لا يمكن للنبي (في رأيهأن يكون عالمًا بالمسيحية" (II,12).


و الملفت للانتباه أن جعيط لا يتبنى المخرج الذي ذهب إليه اندري و الذي يمكن أن يفسر التشابه "في الفكر … في التعابير و الصور و الاستعارات" (II,168)  بين القرآن و عظات افراييم بما يتماشى مع فرضية أمية النبي أو على الأقل عدم اطلاعه على هذه الكتابات. إذ يرى اندري أن "هذه الرؤى و بنى التقوى الممزوجة بالخشية لدى افراييم و في القرآن إنما هي نماذج دينية مقولبة، كليشيهات معبرة عن منهاج الذهنية السامية آنذاك، فينكر أي نقل مباشر من القرآن عن افراييم" (II,168). و يرفض جعيط هذا التحليل المغري، إذ يعتبر أن "ذهنية عرب الحجاز ليست ذهنية أهل الشام و لا الحيرة و لا الغساسنة" (II,168المسيحيين.


يتمسك جعيط إذن على عكس المستشرقين بفكرة عبقرية محمد و بكونه كان علامة في اللاهوت المسيحي بل و يتعمق في هذا النهج إذ يعتبر أن الرسول قد اطلع على الكتابات المسيحية و أنه "لم يدرس فقط … بل تفكر و تأمل" (II,156). و في خصوص هذه النقطة بالذات يؤكد جعيط على الأهمية التي يكتسبها تعاطي محمد للتجارة إذ "أن القرآن مفعم بمعرفة دقيقة للتراث المسيحي و للتراث اليهودي" (II,150و أن مثل هذه المعرفة تستوجب رحلات إلى اليمن و إلى سوريا بل و إقامات طويلة بهما و خاصةً بسوريا


كما أن جعيط يولي اهتمامًا كبيرًا للفترة السابقة للرحلات التجارية و التي عاشها الرسول بمكة معتبرًا أنه ابتدأ التأمل و التفكير في القضايا الميتافيزيقية منذ ذلك الوقت و لا بد أنه تأثر بحوارات و نقاشات في هذا الموضوع. ف"من الواضح أن شابًا قرشيا مهما كانت عبقريته و حساسيته و ميله للتأمل الديني لا يمكن أن يتجه إلى البحث اللاهوتي في الشام و عبر لغات أجنبية مثل السريانية و اليونانية من دون تهيئة مسبقة في بلده أو تأثير تأثر به لكي يتولد لديه مثل هذا الاهتمام" (II,152). إذن وقع تأثير في مكة و جعيط ليس مقتنعًا برواية السيرة التي تحدثت عن من سمتهم "حنفاء" و هم أناس غير راضين بدين العرب يبحثون عن إجابات أخرى على حيرتهم الدينية. وهو يعتبر أن هؤلاء كانوا مسيحيين بكل بساطة و أن القرآن نفسه يؤكد هذا التأثير لما يرد على اتهامات قريش التي تقول أن محمدًا معلم من طرف أعجمي : "إن القرآن لا ينفي هنا لا الاتصال بهذا الشخص و لا بنهل المعرفة منه و يكتفي بالإجابة على أن القرآن لا يمكن أن يكون أملاه هذا الرجل في شكله الموجودإنما من الواضح أن النبي كان يعرف هذه اللغة الاعجمية (السريانية؟)" (II,154).


و بالعودة إلى تأثير المسيحية على القرآن، فإن جعيط يعتبر أنها تتجاوز التشابهات مع كتابات افراييم التي تفطن إليها تور اندريفهناك كذلك تأثيرات هامة للأناجيل المنحولة على ما يقصه القرآن حول مريم و حول المسيح، و الأهم من هذا ربما هو أن المسيحية وراء بعد الزهد في الإسلام  ف"النبي زاهد إذن و متأمل … وهو مكتسب لمثل ديني رفيع جدًا و صارم جدأ" (II,173وهو بدون شك مثل الرهبان المسيحيين.


و تأثير المسيحية السورية على القرآن هو من أهم استنتاجات جعيط في استقراءه العلمي للسيرة النبوية. فهو يذكرنا بأن المسيحية كانت تزن بوزنها على شبه الجزيرة العربية التي ربما كانت لتصبح مسيحية لولا سبقتها الدعوة المحمدية لتوحد العرب تحت دين توحيدي جديدو يعتبر جعيط أن بروز نبوة محمد لا يمكن أن يفهم خارج تأثير المسيحية إذ "كبار المصلحين و المبدعين في الدين و الفكر يظهرون في غفلة من التاريخ … لكن باتصال ولو قليل في ميدانهممن دون هيكلة الهندوسية في زمانه لم يكن ليظهر البوذا و من دون المسيحية الشرقية السورية لم يكن ليظهر محمد و إلا فلا نرى كمؤرخين حلًا للإشكال" (II,164).


لنستعد إذن أهم نتائج بحث جعيط وهو ملتزم بالمنهج التاريخي الصارم، أي عندما يضع الدين  في مجرى التاريخ و يحاول أن يفهم الدعوة المحمدية استنادا إلى ما يجري على سطح الأرض و يبحث في التاثيرات : محمد لم يكن أميًا بل كان يحسن القراءة و الكتابة وكان عبقريًا و كبعض أبناء وسطه و زمنه لم يكن راضيًا بدين الأجداد و كان يبحث عن إجابات أسمى  لحيرته الدينيةو هنا نأتي إلى مسألة الحضور المسيحي في الجزيرة العربية و اليمن و الشامإذ لا شك أن محمدًا عرف مسيحيين في مكة وناقشهم، لكن الأهم من ذلك هو تعاطيه للتجارة بعد زواجه و سفراته إلى اليمن و الشام حيث اطلع على كتابات افراييم و الأناجيل المنحولة بل و درسها و تأمل فيها حتى أصبح علامة في اللاهوت المسيحي، على عكس ما يعتقده كبار المستشرقينوهنا نصل إلى السؤال الخطير : إذا دحضنا فكرة أمية الرسول بل أكدنا على ذكائه و إلمامه بلاهوت المسيحية السورية، فما القرآن إذن؟ و من جهة تاريخية بحتة تأتي إجابة جعيط واضحة : "إن كل ما اختزنه محمد في ذاكرته سيرجع عن طريق الوحي، في حالة الإيحاء الداخلي، عن طريق الصوت الداخلي الملهم في فترات الانخطاف و الذي اعتبره محمد بكل حماس وحيا إلهيا من الخارج" (II,154).


هذه إذن أهم النتائج التي يصل إليها جعيط لما يلتزم بالمنهج التاريخي الصارملكن في الجزء الأول من الكتاب، خاصةً عندما ينكب على تحليل ماهية الوحي و القرآن، نلاحظ أنه لم يلتزم بالمنهج التاريخي الصارم، إذ قام بإشارات إلى الماورائي و تدخله في التاريخ الذي يجري على سطح الأرض و إلى عدم قدرة العلم بل العقل الإنساني على إدراك مثل هذه المسائل.


(يتبع)


بكار غريب 

Aucun commentaire: