samedi 4 septembre 2021

هشام جعيط و السيرة النبوية :صرامة المنهج التاريخي أمام المعتقد (1/3)

"فهذه الدراسة ليست كالأولى التي أرادت لنفسها البحث في ماهية الوحي و النبوة من وجهة نصف كلامية - ميتافيزيقية و نصف تاريخية و كما يمكن أن يراها المفكر المسلم الآن بل هي دراسة تاريخية بحتة في موضوع حساس جداً لأنه يلتصق بالماورائي و يتصل بالمعتقد، و التاريخ إنما هو علم وضعي و أرضي يتناول فعاليات الأفراد و المجتمعات البشرية في الماضي و يخرج عن دائرة الإيمان و المعتقد".

هشام جعيط، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (II,5).

 

مقدمة 

إن آثار الأستاذ هشام جعيط كثيرة ومتنوعة، تطرق من خلالها إلى مجالات مختلفة، من تاريخ المدينة الإسلامية إلى تاريخ المغرب العربي مروراً بالفتنة الكبرى، دون أن ننسى أعماله الفكرية الثمينة مثل "أوروبا و الإسلام" و"أزمة الثقافة الإسلامية". كل هذه الآثار هامة، لكن لا شك و أن أخطرها بالنسبة لنا كقراء عرب ومسلمين هي ثلاثيته حول السيرة النبوية و مجهوده العلمي في استقراء نشأة الإسلام وتاريخ الرسول. وهذا العمل خطير لأنه يسعى إلى تناول موضوع النبوة من زاوية تاريخية بحتة وهو ما يضع موضع السؤال بل يفند أحياناً مسلمات حول السيرة النبوية توارثها المسلمون منذ ما يزيد عن 12 قرناً.


وكان هشام جعيط واع تماماً بخطورة مشروعه وبما يمكن أن يكون وقع عمله على ضمير قرائه المسلمين،  فيذكر أن "بصفة عامة التاريخ يتجه إلى المختصين في ميدان معين قبل كل حساب. لكن مع هذا إذا اتسع أفقه فهو يمس من ينتمي إلى الحضارة المدروسة أو المجتمع المدروس بصفة قد تكون وجودية" (II,7). لهذا السبب رأى أنه من المستحسن أن يأخذ كل الاحتياطات لشرح أسباب خوضه مثل هذه المغامرة وتفسير خصوصية منهجه في دراسة السيرة النبوية، ف "قد يقال لا نحتاج بالخصوص إلى دراسة أسس الإسلام من موقع غير إيماني أو قد يبدو تشكيكاً في أمور قد تقبلها الوعي الجماعي". (II,8).


وفعلاً إننا نجد في الجزأين الأولين اللذين اعتمدناهما في هذا المقال، خاصة في المقدمتين، هاجساً بيداغوجياً واضحاً عند الكاتب. فهو يخصص حيزاً هاماً ليفسر لماذا وكيف ارتأى درس تاريخ الرسول بصفة علمية. وقد قام بمجهود كبير حتى لا نسيء فهمه. كما أنه أجاب في المقدمتين بطريقة استباقية على الانتقادات التي يمكن أن تأتيه من "اليمين"، أي من قراء محافظين سوف يحترزون من تحليلاته أو يعارضونها صراحة، أو من "اليسار"، أي من قراء "علمانيين" ربما سيعتبرون أن الكاتب قد تحاشى الذهاب إلى الاستنتاجات المنطقية التي كان من المفروض أن يوصله إليها المنهج الذي توخاه. وقد نجح جعيط في رأينا من خلال المقدمتين في وضع بحثه في اطاره، وهذا ليس بغريب عن مفكر عميق مثله كان جد متمكناً من القضايا المنهجية.


فيؤكد جعيط أن الهدف من عمله  "ليس المس بالمقدسات الإسلامية و لا بالذات النبوية و لا إقامة أحكام تقريظية أو سلبية "(II,6) كما أنه ينبه أن مقاربته لا علاقة لها بأي ايديولوجيا (II,7) و إنما المقصود من بحثه هو "تعميق المعرفة و  إثراؤها في فترة عرف فيها علم التاريخ تقدمًا بالغا في الغرب" (II,7) و قد رأى جعيط أنه يمكن تجديد البحث في السيرة النبوية و السعي إلى "إخراجها من تراكم الأفكار المسبقة أو غير المثبتة أو من التحليلات النفسية الواهية و في المقابل لا بد من وضع موضع السؤال و النقد الأخبار التي أتت بها السير و اعتبرت كأنها معطى" (II,21)


التمشي واضح إذن. جعيط يعتمد أبحاث المستشرقين و ينقدها في آن، و يستعمل هذه الأبحاث لنقد السير النبوية القديمة : "فنحن نعتمد هذه الأبحاث (التي سبقت) و نذكرها و نحللها أو ننقدها على السواء، لكن أيضا نرجع الى المصادر و ندرسها عن كثب و كأن الموضوع طرق لأول مرة (II,15). و لكن نقده للاستشراق و للمصادر القديمة كذلك يرتكز على … القرآن! و هنا تكمن خاصية بحث جعيط و إضافته : اعتماده على القرآن كمصدر أساسي لتحليل و نقد السيرة النبوية ف: "بما أن القرآن معاصر للأحداث، فهو المصدر الأساسي، خصوصًا بعد أن رتبه العلماء المحدثون من المستشرقين إلى فترات متباينة و متتالية" (II,183). و بالطبع لا يمكن أن يكون القرآن مصدرا تاريخيًا عاديًا فهو "لا يعطي تفاصيل عن الأحداث بل يثبتها فيجعلنا نتحقّق من وجودها" (II,22).

 من الواضح أن مثل هذا الخيار يطرح إشكاليات كبرى، فكيف يمكن اعتبار نصًا مقدسًا يرى فيه المسلمون كلام الله المنزل مصدرًا تاريخيًا أساسيًا؟ لا بد هنا من العودة إلى ماهية الوحي و القرآن وهو ما فعله جعيط بتعمق وذكاء كبيرين في الجزء الأول من الثلاثية و لكن حجته الرئيسية في التعويل على القرآن كمصدر هي ابتعاده عن الخوارق : "لأنها مستحيلة في ذاتها و مستحيل الإيمان بها في هذا الوسط" (I,29) و"ابتعاده  خاصة عن كل عنصر لا عقلاني بخصوص النبي بالذات" (I,29) و هو ما يضفي عليه مصداقية في رأي المؤرخ، إلى جانب المحافظة عليه عمومًا من أي تحريف سواءً كان بالإضافة أو بالحذف.


هذا هو إذن منهج جعيط في دراسة السيرة النبويةإلمام و معرفة معمقة بأعمال المستشرقين و المصادر القديمة و نقدها متى وجب و العودة إلى القرآن للاستئناس به و كذلك للحسم في بعض الأحيانو هذا الخيار المنهجي هو الذي شجع جعيط على الكتابة في تاريخ الرسول بعد تردد طويل (I,7). و جعيط يؤكد في بداية الجزء الأول أن "هذا الكتاب و ما سيتبعه كتاب علمي و ليس بالدراسة الفلسفية و يعتبر بالتالي كمعطى ما هو لب الدين الإسلامي : الوحي و الإيمان والبعث. و سواءً كان المؤرخ - المسلم و غير المسلم - مؤمنًا أو خارج عن الإيمان، فمنهجه هو هذا، أي اعتبار المعطى كمعطى ومحاولة تحليله لا أكثر (I,8).

ها نحن إذن في جوهر موضوعنا : ما هو منهج المؤرخ مسلما كان أم غير مسلم، مؤمنًا كان أم غير مؤمن، في دراسة ما هو "مرتبط بالماورئي  و ما هو ملتصق بالمعتقد"؟ إلى أي مدى يمكن أن يذهب العلم في نقد الرواية الدينية الموروثة ؟ و في تفنيد ما هو مختلق لحبك الرواية و ما هو خرافي ؟ و الأهم من كل هذا، كيف يمكن للمنهج العقلاني و للعلم الوضعي التعامل مع المعطى الإيماني، أي مع ما يطرح مسائل بعلاقة بما وراء العالم ؟ هل على المؤرخ أن يغامر في طرق مثل هذا الموضوع ؟ و كيف ؟


سنرى في فقرة أولى أن جعيط كان واعيًا بكل هذه الإشكالات و أنه خصص لها ما سميناها "تأملات منهجية" حيث يعود المؤرخ على علمه و يلبس لذلك ثوب الابستمولوجي. كما سنحاول في فقرة ثانية إبراز أهم النتائج التي يصل إليها جعيط عندما يلتزم بصرامة المنهج التاريخي في دراسة السيرة النبوية، وذلك أساسا في علاقة بأمية الرسول المزعومة و بالتأثيرات التي تأثر بها الرسول و آثار المسيحية السورية في القرآن، حيث يذهب جعيط إلى استنتاجات أبعد مما ذهب إليه أكبر المستشرقين في هذا الصدد. و سنخصص فقرة ثالثة لإبراز المواقف التي يكبح فيها جعيط جماح المنهج التاريخي أو يقر بعجزه على تناول ما له علاقة   بالماورائي  وهو بهذا يكون قد تموقع خارج المنهج العلمي العقلاني.


تأملات منهجية حول التاريخ و المعتقد 

يستعد جعيط إذن إلى تطبيق صرامة المنهج العلمي في استقراء السيرة النبوية و هو يعرف أن إضافته بالنسبة للقراء المسلمين تكمن هنا بالذات. إذ "ليس لنا هنا أن نستسلم و نتخلى عن طريقتنا الفينومينولوجية، وإلا رددنا ما أوردته المصادر القديمة" (I,28). لكنه و إن تمسك بالمنهج العلمي فإنه أورد في نصه مجموعة من الملاحظات ذات طابع ابستيمولوجي سعى من خلالها إلى تنسيب الحقائق العلمية و التذكير بحدود العلم بصفة عامة و علم التاريخ بصفة خاصة. ف"العلم بذاته رسم حدودًا لنفسه، فحقائقه نسبية ودقيقة في آن (…) و تبقى أصول الأمور و أسبابها النهائية معلقة" (I,93). و أما علم التاريخ فهو"لا يتسم بالمصداقية الكافية كعلوم الطبيعة أو الدقة و الصرامة كالرياضيات و لا يفلت من التأويلات" (II,8). لكن رغم كل هذه النقائص "فإن المؤرخ الصميم لا بد له أن يلتزم بما لديه من مصادر و أن يتسم بالحذر ... من دون إخضاع (واقع الماضي) لأية نظرة مسبقة (II,8). هذا و لا يفوت جعيط التأكيد على أن التاريخ معرفة "تخضع إلى روح الزمنية التي تنتجها" (II,7).


و بعد التذكير بحدود علم التاريخ و تنسيب نتائجه فإن جعيط يواجه جوهر موضوعه أي علاقة علم التاريخ بالمعتقد و بما يتصل بالإيمان. و في هذا الصدد يذكر جعيط بأن التاريخ علم دنيوي أرضي و هو ما يترك الماورائي خارجًا عن موضوعه "قلت أن التاريخ كواقع و كعلم يجري على سطح الأرض و لا يتناول الحقائق الميتافيزيقية في حد ذاتها" و هذا ما يتطلب من "المؤرخ المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الشخصية عندما يدرس بزوغ الإسلام. فالحقائق الدينية يتناولها بالوصف و التحليل، بالبحث في التأثيرات و التطورات، و يضعها في لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطى الإيماني، و إلا بطل البحث و هو دائما خارجي لا يهتم إلا بالظواهر و ليس بالحقائق العليا" (II,6). الماورائي إذن خارج عن موضوع التاريخ و لكنه أيضا أعلى من التاريخ. و هذه فكرة أشار إليها جعيط بوضوح في مقدمة الجزء الأول لما شرح مخططه و لماذا يجب في رأيه أن يسبق التفكير في الوحي و النبوة البحث التاريخي البحت : "تاريخية النبوة و النبي التي ستأتي ًفي الآخر لوضعه في الإطار الواقعي من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصة، بل هو أدنى من الحقيقة الدينية المحضة" (I,7). المهم أن جعيط واعي تمامًا بالإشكال الموجود في تأريخ ما له علاقة بالدين أي أنه واعي ب "الصراع بين العقلانية و التاريخيةالتي تضع الدين في مجرى التاريخ( و بين مطلقية المعتقد كحقيقة فوق التاريخ أي كحقيقة لا زمنية" (I,106). و هو يرجع هذا الصراع إلى المنحى الذي اتخذته الحداثة في أوروبا، "وهو إقصاء الدين جملة من الوجود البشري" (I,106)، مذكرًا بالملاحظة الصميمة لعالم الاجتماع "ماكس فيبر" في هذا الصدد "ارتفع السحر عن العالم في فترة الحداثة، أي أن أوروبا، وهي طليعة الإنسانية، طردت كل القوى الخفية التي وزنت بوزن كبير على البشر من آلهة و شيطاين و أرواح و ملائكة "(I,93).


إلا أن الحداثة حداثات. و جعيط يبرز أن الموقف من الدين في الغرب قد تغير. إذ ولت "عهود الصراع مع الكنيسة" و "عهود تصادم العلم مع الإيمان" و ذلك لأن "العلم ابتعد عن نضاليته الأولى و تجاوز النظريات الوضعية القديمة، أي أن العلم و بالخصوص علوم الانسان صار يتسم بالرصانة في نفس الوقت الذي نأى فيه عن مواقع السذاجة و الكفاح الايديولوجي" (II,8), بل إن "الفكر الحديث يجنح إلى تفهم (المعتقدات) في منطقها الخاص بروح رحبة" و "من ينظر اليوم إلى الأديان الماضية و الحاضرة من أهل العلم و الحكمة و حتى سلامة العقل، ينظر إليها بمحبة و تقدير، و يجب عليه ذلك" (I,93).


ليس من المفاجئ إذن أن تتنزل محاولة جعيط في استقراء تاريخ الرسول في إطار مثل هذه المقاربة التي تنظر إلى موضوع بحثها بحب و تقدير و تجنح إلى تفهمه في منطقه الخاص. و هذا ما عبر عنه جعيط صراحة في مقدمة الجزء الثاني لما أكد أن "على المؤرخ أن يتسلح - زيادة على الموضوعية و الدقة - بالتعاطف، أي بقسط كبير من النزاهة و التفهمية" (II,6). و قبل ذلك في الجزء الأول لما أعلن أنه في هذا الكتاب حاول "الاعتماد على المعرفة و استنباط منهج عقلاني تفهمي" (II,12).


ما عسى أن يكون هذا المنهج العقلاني التفهمي؟ إلى أي مدى ستذهب العقلانية و متى سيبدأ التفهم؟ و ما هي أهم النتائج التي أفضى إليها هذا المنهج فيما يخص تاريخ الرسول؟ و هل هناك قطيعة منهجية بين الجزء الأول الذي كتب من وجهة نصف كلامية - ميتافيزيقية و نصف تاريخية و الجزء الثاني الذي قدم على أنه تاريخي بحت؟ سنقدم في مرحلة أولى أهم النتائج التي وصل إليها جعيط لما انتهج نهج الصرامة التاريخية في استقراء السيرة النبوية، خاصة و أنه قدم محاولته على أنها  "استقراء تاريخي للنص القرآني و تتبع التأثيرات الخارجية و النظر النقدي في المصادر التاريخية و البيوغرافية" (II,15).


(يتبع)


بكار غريب 

Aucun commentaire: