samedi 4 septembre 2021

هشام جعيط و السيرة النبوية : صرامة المنهج التاريخي أمام المعتقد (3/3)


التاريخ و الماورائي 

 

لاشك و أن صعوبات جمة ستعترض المؤرخ ما أن حاول التطرق إلى القضية الجوهرية في السيرة النبوية : قضية الوحي. و إن قام جعيط في الجزء الأول ببحث هام حول ماهية الوحي و لحظة التجلي استنادا إلى سورتي النجم و التكوير، فإنه أعلن منذ البداية أنه لا يمكن للعلم بل للعقل الإنساني فهم هذه التجربة الفريدة التي عاشها النبي،: "الوحي هو العملية التي تم بها التبليغ إلى الرسول و التجربة الفريدة التي عاشها و ليس همنا أن نستنكه هذا بالعقل فهو أمر مستحيل" (I,18). وهو يعود مرة أخرى، في الباب السابع المخصص "لقوة النبي"، إلى هذا الموضوع مؤكدًا محدودية علومنا أمام هذه الظاهرة  : "التجلي و الوحي يبقيان الصيغة الحاسمة التي تتجاوز العقل، وبالتالي لا يمكن تفسير ذلك بمعارفنا البسيطة المحدودة" (I,93). هناك إذن إقرار بوجود عالم آخر غير عالمنا، فيلعب النبي دور الوسيط بينهما : "فالنبي وسيط بين العالم الأرضي الإنساني و بين العالم الآخر، عالم الروح و الإله ذاته" (I,93).


و هنا يظهر أول إشكال منهجي : ما هو المقام الذي يجب أن يعطيه المؤرخ لظاهرة الوحي ؟ هل يمكن اعتباره حدثًا تاريخيًا ) وهو كذلك( أم أكثر من مجرد حدث تاريخي ؟ و يعتبر جعيط أن الوحي فعلًا أكثر من ذلك : "التجليات هي أكثر من أن نعتبرها أحداثًا تاريخية، فهي في التاريخ لكنها ترمز إلى ما وراء التاريخ و ما وراء العالم سواءً إلى الكائن الإله المشخص أو المطلق اللا مشخص" (I,27). و الأمر يزداد تعقيدًا عندما سيطرح جعيط ثنائية الحقيقة و الواقع : "فظاهرة الوحي … هي كشف للحق المطلق" (I,98). وهو ما يجعل النبي في منزلة : "ما بين الحقيقة و الواقع" (I,104) أي بين التاريخ و ما وراء التاريخ. و ليس من المفاجئ أن  يعتبر جعيط أن : "الحقيقة تسمو على الواقع" (I,104) و المعتقد على التاريخ. و استنادًا إلى كل هذه الأفكار فإن جعيط يحدد مقام الوحي بالنسبة له : "الوحي ظاهرة تاريخية واقعية من وجهة التاريخ والأنثروبولوجيا. إلا أنه يصبو إلى ربط العلاقة مع المطلق و الحقيقة المطلقة و هذا ما يخرجه عن التاريخية العادية المحدودة النظر" (I,97).


ولا شك أن بتناوله ظاهرة الوحي بهذه الطريقة يخرج جعيط عن التمشي المعتاد عند المؤرخين. وهو واعي بذلك : "يبقى أن الوحي ظاهرة دينية فحسب معطاة من التاريخ، و العقلانيون لا يؤمنون بواقعيتها الفعلية : هذا شأن المؤمن ليس شأن العالم و الفيلسوف" (I,105). فهل كان جعيط المؤرخ مستنبط المنهج العقلاني - التفهمي مؤمناً بواقعية الوحي الفعلية؟ هذا ما توحي به بعض التحاليل. و هذا الأمر يتجاوز مسألة "صدقية الرسول" التي طرحها المستشرقون و التي لطالما أزعجت جعيط، منذ "أوروبا و الإسلام"، لأنها لم تطرح في علاقة بعيسى ولا بموسى. و يتبع جعيط في هذا الإطار النهج الذي انتهجه المفكر الألماني الكبير "ماكس فيبر" في توصيف هذه التجربة فيرى أننا مع الوحي و التجلي ندخل في واقع لا إنساني و حقيقة تفوق الإنسانية و لذا يكون من الأرجح أن محمداً من أصحاب الرؤى" (I,57) و "فيبر" يعتبر أن علينا أن نصدق ما يقوله الأنبياء عن تجاربهم وهذا ما يتبناه جعيط. لكنه لا يتبع "فيبر" إلى الآخر لأن هذا الأخير "كوضعي عقلاني حديث و حتى كاجتماعي تفهمي، اعتبر أن سلوكات الأنبياء هي من النمط المرضي" (I,75). فجعيط يرى أن عند التجلي و الوحي الأنبياء يعطون عقولهم دون أن يفقدوها و يقتربون من الجنون دون أن يقعوا فيه .(I,98) 


إن كل ما بلوره جعيط من تحاليل و أفكار حول ظاهرة الوحي هو نتيجة لتطبيق المنهج العقلاني التفهمي الذي سعى لاستنباطه و هو الذي يتجاوز المنهج العقلاني الوضعي القديم و يتطرق إلى موضوعه بقسط كبير من التفهم والتعاطف، على غرار ما فعله "فيبر" محللاً تجارب الأنبياء و ما أوصى به من ضرورة تصديق ما يقولون عنها. لكن يبدو أن جعيط يذهب إلى أبعد من هذا فكأنه يقر بوجود ما وراء العالم حيث الآلهة و الأرواح و أن هذا العالم محتضن للحق المطلق، على عكس عالمنا الدنيوي حيث الواقع و الحقائق النسبية... 

ولا يقف جعيط عند هذا الحد، إذ نجد في الجزأ الأول وحتى الثاني تحاليل لم نتعود عليها عند المؤرخين كالتي تتحدث عن تدخل للإله في التاريخ البشري. فهو يلاحظ مثلاً بكل أسف أن "العقلانيين الأكثر تفهماً في أوروبا العصر الحديث ضخموا من دور مؤسسي الأديان لأنهم اعتبروهم مبدعي هذه الأديان ... لكن الذي حدث في كل هذا هو إقصاء الله" (I,105)! و هذا ما لا يفعله المؤرخ هشام جعيط، إذ يرى "أن النبي كان قبل البعثة يبحث في اتجاهات عدة عن الحقيقة، و أن الله هداه إليها، لكن القرآن فرض عليه بغتة" (I,100). كما نجد في الجزء الثاني، التاريخي البحت كما قدمه جعيط، أثراً لفكرة تدخل إلهي في التاريخ البشري، ولو بأقل حدة و بصفة غير مباشرة. إذ يكتب جعيط : "إن تعلم (النبي) و درسه و تدريبه إنما كان بإلهام من الله و تحت رعايته"، لكنه سرعان ما يضيف "هذا ما اقتنع به الرسول بكامل القناعة و الجدية" (II,155). و من هذا المنطلق لا يمكن أن يفاجئنا تأكيد جعيط على أن القرآن "هو الأثر الإلهي الذي انطبع في الصيرورة الإنسانية" I,22))


هل يمكن اعتبار أننا هنا أمام اختلال للتوازن بين العقلانية و التفهم لصالح هذا الأخير؟ أم أنه يجب علينا فصل الجزء الأول عن الجزء الثاني و اعتبار أن بعد تقديم مسألة الوحي و النبوة كما يجب أن يطرحها المفكر المسلم اليوم راح جعيط إلى عمله كمؤرخ صارم في الجزء الثاني ؟

 

الخاتمة 

 

وقفنا فيما سبق على خصائص المنهج التاريخي الذي انتهجه هشام جعيط في استقراء تاريخ الرسول. و مهما كانت المؤاخذات حول ما سماه منهجه العقلاني التفهمي، خاصةً عند تطرقه إلى مسائل في علاقة بالماورائي كالتجلي و الوحي، حيث هناك إقرار بتدخل للماورائي في التاريخ الإنساني، أو تقديم ثنائية الواقع (التاريخي) و الحقيقة المطلقة (الماورائية)، فإن إسهام جعيط في استكشاف نشأة الإسلام و استقراء السيرة النبوية إسهام عظيم. إذ يهدينا في ثلاثيته رؤية جديدة و جريئة لتاريخ الرسول فند من خلالها بكل شجاعة ما علق به من أساطير و خرافة و اختلاقات كتبت أكثر من قرن بعد الأحداث و سعت بطريقتها إلى حبك رواية معقولة و ملئ الفراغات (خاصةً فيما يخص حياة الرسول قبل البعثة) مع تعظيم لشخصية الرسول، وهو أمر طبيعي في كل الديانات يتنامى مع مرور الزمن، و أعطانا سيرة نبوية جديدة لا شك و أنها أقرب إلى الحقيقة التاريخية مما توارثناه منذ قرون.


و الإنجاز عظيم كذلك لأنه "عمل عمر". فهو نتيجة لقراءة نقدية قام بها عبر عقود لكتابات المستشرقين القدامى منهم والجدد و للمصادر القديمة من تاريخ و أخبار و أنساب و غزوات و كذلك لمعرفة عميقة و دقيقة للقرآن غذتها أعمال المستشرقين الذين أعادوا ترتيبه مثل نولدكه في القرن التاسع عشر و بلاشير في القرن العشرين. و هنا تكمن أهمية إسهامه. فجعيط ليس المؤرخ الأول الذي يرفض قصة الغار أو يفند فكرة أمية الرسول أو يبرز تأثيرات المسيحية السورية على القرآن، لكنه بفضل قراءته النقدية للمستشرقين و للمصادر القديمة و اعتماده على القرآن كمصدر رئيسي، توصل إلى كتابة تاريخ لمحمد يحمل بصمته الخاصة.


ولا شك أن ما حث جعيط على إنجاز هذا المشروع العظيم هو ما أخطأه الاستشراق القديم في حق الرسول و المنحى غير العلمي الذي تورط فيه الاستشراق الجديد. فأما بالنسبة للأول و بالرغم من أنه يعد علماء كبار و جديين يشيد بهم جعيط مثل فلهاوزن و قولدزيهر و شخت و نولدكه فإن بحوثه حملت : "قسطًا غير قليل من الأحكام المسبقة حول شخصية (الرسول) و أخلاقيته و حول مدى صدقه في ادعاء النبوة، و كل هذا ليس من العلم في شيء" (II,10). و أما بالنسبة للثاني فنقد جعيط أكثر قسوة. فهو يعتبر أن أتباعه ينتجون علمًا "من دون تثبت و لا مسؤولية و لا حذر" (II,13) و أنهم "اعتبروا أن كبار العلماء في الميدان قد خبا ذكرهم و درجوا فيمكن عندئذ البوح بأي فكرة من دون رقابة الرابطة العلمية العالمية "(II,14). و لا شك أن جعيط يضع في هذه الخانة ما ذهب إليه الاستشراق الجديد من اعتبار "أن النص القرآني … حرر في القرن الثاني ه / الثامن م و أنه أعيدت صياغته في الفترة العباسية" (II,24). و يرى جعيط أن "هذا الزعم مطبوع بالغلو في نقد النصوص و لا يصمد أمام الفحص لأسباب عديدة لا تحصى…" (II,24).


و هكذا يظهر أن رد جعيط على الاستشراق فيما يخص نشأة الإسلام هو من قبيل ممارسة الرقابة العلمية على الأعمال غير الجدية للاستشراق الجديد و من قبيل الرد على الأفكار المسبقة الجارحة التي يحملها الاستشراق القديم. و في كلتا الحالتين فإن جعيط يحمل وجهة نظر المفكر المسلم إزاء هذه الأعمال و الواعي بأن الاستشراق هو في نهاية الأمر "من إفرازات الشعور البروميثي الأوروبي" (II,8). وقد اقتنع بأن أفضل رد على الفريقين هو كتابة تاريخ محمد حسب المعايير العلمية الحديثة، إذ "لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب و المسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميًا. و هكذا قد آن الأوان لنسهم بدورنا في الميدان من وجهة علمية صارمة و في موضوع يهمنا قبل غيرنا" (II,9). ورغم كل الاحترازات التي يمكن أن  يثيرها مثل هذا العمل الجريء، فإن جعيط قد رفع التحدي باقتدار، فبعد هذه الثلاثية لن ننظر كعرب و مسلمين إلى تاريخنا بنفس الطريقة. فلنقرأ إذن هذا الأثر فجعيط لم يكتبه للمختصين بقدر ما كتبه لعموم المسلمين وهو يستجيب أكثر من السير القديمة إلى متطلبات العقل المعاصر ولأن "أخشى ما يخشاه الباحث هو اللامبالاة …" (II,15).

 بكار غريب  

Aucun commentaire: